الأحد 31/1/2010: كوكب آخر في المطعم ليلاً، الشموع على الطاولات والمأدبة قليلة أنيقة. وقت لمراعاة الصحة في فوضى الغذاء والعمل وتحطيم الجسد. الناس الى الطاولات هادئون بما يكفي لتبادل أحاديث خفيفة ومرح بريء. تكفي مفارقة واحدة في الكلام ليبتسموا أو يضحكوا. تكفي ذاكرة عابرة لفتح دفاتر الماضي والتعارف، يبحثون عن أوجه شبه في طفولاتهم وأماكن إقاماتهم الأولى. الناس الطبيعيون في المطعم ليلاً، ونحن الى طاولاتنا نجاورهم، كأننا من كوكب آخر سقطنا. وقد أدهشنا اجتماع هؤلاء حول طعام قليل وأنيق من دون نقاش سياسي. لم نسمع صراخاً ولا بكاء ولا غضباً ينذر بانفجار. أتوا ليأكلوا قليلاً ويمرحوا كثيراً ولكن، بلا صخب. ناس عاديون أكدوا أننا غير عاديين. ذلك أن قادة الحروب حطمونا لأننا صدقناهم فدخل كلامهم في خلايانا، في كلامنا، في انفعالاتنا حول مائدة طعام. في المطعم ليلاً انتبه الناس لوجودنا الغريب. بدونا مثل شهداء أفلتت صورهم عن الجدران ودخلت الى المطعم. نحن الشهداء الأحياء، فقط لأننا صدّقنا صانعي الحروب وقادتها. لا تصدّقوا، أو صدّقوا قليلاً. أرجوكم لا تصدّقوا كثيراً. الاثنين 1/2/2010: الساعات جوهر الزمان أنه ليس واحداً، فلا وجود فعلياً سوى للأزمنة. هذه الكلمات مدخل كتاب كريستوف بوميان «نظام الزمان» الصادر أخيراً عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت وتولى (نقله الى العربية بدر الدين عرودكي). كتاب يخدم المؤرخين لأن للزمان مقاربات عدة، لكنه يتضمن جوانب تاريخية للتعامل مع الزمان كوقت قابل للتحديد وللتعامل. ومن ذلك هذا المقطع: «القرن الرابع عشر هو الحقبة الأهم في التاريخ، لا لأنه شهد تحولات المعمار الزمني ترتسم فحسب. بل أيضاً لأنه بدأت فيه المواقف إزاء الزمان والحياة والموت والماضي والمستقبل في التغيُّر. تشهد على ذلك الصور والكتابات والرسائل والوصايا والقبور. ويشهد ظهور ضروب الانتقاد الأولى للخرافات الإثنية التكوينية وأوائل المجموعات القديمة الأثرية. ثم إن الساعة دخلت في الأدب في القرن الرابع عشر، مع فرواسار، في ما يبدو. وفي القرن الرابع عشر أيضاً قارن نيكولا أوريسم العالم بساعة آلية كبرى أبدعها الله بحركة جعلت من الدواليب كلها تدور بصورة متسقة. في ذلك القرن، تكاثرت الساعات في المدن، وتعمم تقسيم النهار الى أربع وعشرين ساعة متساوية، تتضمن كل واحدة منها ستين دقيقة، لأن انقسام الدقيقة بدورها الى ستين ثانية نظري محض، في النهاية، لأننا لا نعرف أن نقيسها. وشهد بداية تخلي الشركات التجارية والمصرفية الكبرى عن المناهج القديمة في حساب الزمان التي كانت تجعل بداية السنة تواريخ مختلفة بحسب الدول، فصارت تبدأ اعتباراً من الأول من كانون الثاني (يناير). كان يجب أولاً جعل أجهزة الساعات ذاتها مضبوطة. ثلاثة ابتكارات جوهرية تفتح الطريق لكن أصحابها ظلوا مجهولين: تعلمنا قطعاً في القرن الخامس عشر، بل ربما في القرن الرابع عشر، استخدام الرقاص بوصفه مصدر القوة المحرّكة (كانت أجهزة الساعات الأولى تتحرك بفعل الثقل)، وفي القرن الخامس عشر إنما يُؤرخ أيضاً الصاروخ الذي يسمح لهذه القوة، على رغم أنها تتناقص بقدر ما يمتد الرقاص، بالعمل بصورة متسقة، وأدى ال Stack-freed الذي عُرف منذ القرن السادس عشر، الدور نفسه. وبفضل هذه الابتكارات، أمكن اعتباراً من القرن الخامس عشر، صنع الساعات اليدوية». الثلثاء 2/2/2010: هجاء التلفزيون أمامي وبين يديّ كتاب. أنظر (وأسمع) قليلاً ثم أقرأ قليلاً وقد أمزج الأمرين معاً ولا أقوى على الاختيار. ليس التلفزيون نافذة على بلادنا والعالم، إنه ستارة يتلوّى عليها وجه الرجل حين يقول الكلمة الفصل في أوضاعنا، وإذ نراه ونسمعه ننكفئ الى بلاد بناها لنا الرجل من حجارة كلامه المرئية. وجه الرجل على الستارة/ الشاشة يتماوج فأتوقف عن قراءة كتابي، لأن الرجل دليل وحيد الى مصائرنا في الحرب والسلام، يقررها في غرفة مغلقة مع مجهولين ويبلغنا بواسطة التلفزيون التعليمات والنصائح، فهو في آن واحد، صانع الحرب والمسعف في الكوارث. أيامي تنقضي بين كتاب وتلفزيون، بعدما ملأ صخب السياسة رأسي وأتلف أعصابي فابتعدت عن الطبيعة ناسياً أنني جسد طالع من الأرض لا فكر وعصبية ناتجان من عملية تكوين يتولاها الرجل وأمثاله. وعرفت وأمثالي متأخرين أن الأخرس الأصمّ في القرية كان أكثرنا استمتاعاً بالطبيعة، حتى بحفيف الأغصان وزقزقة العصافير وثغاء الخراف. كان الأخرس يحسها لا يسمعها، وكنا نلهو عنها بإيقاعات الأناشيد العسكرية صاعدة من رؤوسنا. علامة حياتي الوحيدة التمسك بالكتاب، فهو آخر مظهر استقلال لنفسي، والقراءة عن عوالم بعيدة هي دليل عدم اكتفائي بعالم وحيد يقدمه الرجل ويرعاه، وهي يقين داخلي بأن الرجل يستعمرني حين يربطني/ يربطنا بحبل يسميه ممانعة ومناهضة، طالباً أن نسير خلفه عكس التيار العالمي ونرى من بعيد أناساً كانوا أصدقاءنا، نتدرب على كراهيتهم، فقط لأن الرجل أطلق على الحياة تعريفاً جامعاً مانعاً: كراهيتك الآخر هي برهان حياتك. الأربعاء 3/2/2010: صوت وإيقاع 35 سنة على وفاة أم كلثوم، الصفحة غير المطوية من كتاب الغناء العربي. «كوكب الشرق» يعاود سماعها شبان ويتخصصون فيها حين يتقدم بهم العمر، كأنها النضج يحفظ الحب منزهاً عن العلاقة، جوهراً يغني عن الأعراض أو يكون بديلاً منها. أغنيات عن هذا الذي نظنه حباً حين تأسرنا الذكريات ونسعد بالأسر. ولطالما رشحت «رق الحبيب» التي أدتها أم كلثوم للمرة الأولى في حديقة الأزبكية في القاهرة عام 1944 كأفضل أغنية عربية في القرن العشرين (الكلمات من أحمد رامي والألحان من محمد القصبجي). وتجليت أكثر ما تجليت حين سمعتها من إذاعة عربية في باريس. كانت الكلمات تصور سباقاً بين الشوق والزمن، والألحان تقدم جمالياتها بعيداً حتى حدود الخوف. أغنية تضعك على الحافة بين زمنك المحدود والدهر اللامحدود فيتخلق ذلك المزيج النادر بين الحب والموت. وحين نستعيد هذه الأغنية، وربما غيرها لأم كلثوم نسأل: من أين أتت هذه الألحان التي تتعايش بسهولة واقتدار مع أمزجة متبدلة من جيل الى جيل؟ إنها نتاج المدينة المصرية في عصرها الذهبي الذي يندر مثيله في التاريخ، حين ضمت جاليات أوروبية هاربة من جحيم الحربين العالميتين، جاليات استقرت مع آدابها وفنونها وحبها للحياة وتفاعلت مع النخبة المصرية والنخبة الآتية من لبنان وسورية. في هذه الأجواء النادرة التقت الإيقاعات المحلية ذات المزاج الشرقي المتحرر نظام الهرمونيا الأوروبي الصارم، ومن اللقاء برز موسيقيون مثل محمد القصبجي الذي تبقى حاضرة ألحانه لأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد. وما يؤكد الألق المستمر لأم كلثوم هو «رق الحبيب» وأخواتها لا أناشيد الحروب العابرة. صوت السيدة يحضر في السلام لا في الحرب، لذلك نلحظ غيابه عنا وغيابنا عنه كلما تعقدت أزماتنا أو يكون السماع هروباً يمارسه البعض في غرف مغلقة. الخميس 4/2/2010: الموؤودة لن يسأل أحد الفتاة الكردية التركية مدين ميمي بأي ذنب قتلت، فقد نجحت العشيرة في تطويع التعاليم الدينية فصارت ثقافة «طالبان» وأخواتها علامة الإسلام الوحيدة في نظر الناس اليوم شرقاً وغرباً. جاء في وكالات الأنباء: «أفاد طبيب شرعي لم يذكر اسمه وكالة الأناضول بأن مدين ميمي وجدت في وضعية الجلوس في حفرة عمقها متران وبينت التحاليل وجود تراب في رئتيها ومعدتها، ما يعني أنها دفنت حية. وقال المسؤول في معهد الطب الشرعي في ملاطية المجاورة لمدينة كاهتا حيث ارتكبت الجريمة، إن يدي الفتاة كانتا موثقتين وإنها كانت حية وواعية أثناء ارتكاب الجريمة الفظيعة. وعثر على جثة الفتاة في حديقة منزل العائلة بعد مرور شهر على التبليغ عن اختفائها». مدين ميمي موؤودة ميتة، لكن في بلادنا مئات آلاف، بل ملايين الموؤودات على قيد الحياة، فما الفرق بين الحفرة التي وضعت فيها الفتاة الكردية التركية والثوب الأسود ذي النقاب الذي توضع فيه الفتيات باسم جاهلية تدعي الاستناد الى الشريعة. يبدو أن الجاهلية انتظرت طويلاً، وهي اليوم تنتقم من الإسلام الذي حرر المرأة وحفظ كرامتها واستقلال شخصيتها، تنتقم منه حاملة، للأسف، شعارات إسلامية.