كعادته يقدم لنا مدير مركز زايد للتراث في العين في دولة الإمارات العربية المتحدة الدكتور حسن النابودة بين فترة وأخرى تحقيقاً لكتاب تراثي نادر، وكأنه يبحث دائماً عن الجديد ليسد به ثغرة من ثغرات التاريخ العربي، وها نحن نعرض له أحدث ما حققه وهو كتاب «الصحيفة القحطانية» لمؤلفه حميد بن محمد بن رزيق. تعود أهمية هذا الكتاب إلى تركيزه على تاريخ القبائل العربية في عُمان التي شهدت عبر عصورها التاريخية المختلفة ولادة عدد من المؤرخين والعلماء، الذين تركوا لنا إرثاً ثقافياً كبيراً، لولاه لطمست حقائق تاريخية ومعلومات ثقافية كثيرة، فإليهم يعود الفضل في استمرارية العطاء الفكري والثقافي في هذا البلد. وقد صار هذا الإرث الثقافي مصدراً مهماً اعتمد عليه الباحثون والمختصون في دراسة أحوال عمان وتاريخها عبر عصورها المختلفة، فظهرت أعداد كبيرة من الأبحاث والدراسات التي انتشرت بين الأوساط العلمية والثقافية عربياً وعالمياً. ومن أوائل الذين اهتموا بتراث عمان وتاريخها بعض المسؤولين الإنكليز الذين تولوا مناصب مختلفة في الخليج العربي في القرن التاسع عشر الميلادي، وفي مقدمهم بادجر (1888-1815م). الذي ترجم كتاب «الفتح المبين» لابن رزيق معتمداً على نسخة أهداها إليه السلطان تويني بن سعيد وذلك عام 1860 م. وقد عمل بادجر راعياً لكنيسة بومباي في الهند، وتعلم اللغتين العربية والفارسية، وقام بدور كبير في فصل الجزء الإفريقي لدولة البوسعيد عن عُمان، وكان على علاقة وثيقة بالسلطان برغش بن سعيد. وعاصر بادجر مواطنه إدوارد روس الذي شغل منصب المعتمد السياسي في مسقط مطلع السبعينات من القرن التاسع عشر، ثم عين مقيماً سياسياً لبريطانيا في الخليج حتى عام 1892م، وقد قابل ابن رزيق في أواخر حياته سنة 1873م، وكان الهدف من لقائه هو الاستفسار عن اسم مؤلف كتاب «كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة» الذي قام بترجمة فصوله الى اللغة الإنكليزية ونشرها عام 1874م تحت عنوان Annals of Oman. وكان روس رئيساً لمايلز (1838-1914م) الذي عين معتمداً سياسياً وقنصلاً لبريطانيا في مسقط، خلال الفترة من (1872-1886م)، واطلع خلالها على تاريخ عمان وتعرف على مصادره المختلفة، ما ساعده على كتابة تاريخ المنطقة والتعريف به من خلال سلسلة الأبحاث والدراسات التي نشرها في مجلات علمية مختلفة، كما كتب كتابه الموسوعي: The Countries and Tribes of the Persian Gulf الذي تناول فيه تاريخ عُمان عبر عصورها المختلفة، وطبع للمرة الأولى في مجلدين عام 1919 م بعد وفاته. واطلع مايلز على ترجمة بادجر لكتاب «الفتح المبين» وقارنها بالترجمة الإنكليزية لبعض فصول «كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة» التي قام بها E.C.Ross. فتحت هذه الدراسات المبكرة آفاقاً جديدة للمستشرقين والرحالة الغربيين الذين أولوا تاريخ المنطقة والكتابة عنها اهتماماً كبيراً، فظهرت نتيجة لذلك عشرات الأبحاث والدراسات التي اتسعت دائرة تخصصاتها لتشمل الخليج والجزيرة العربية.وعلى رغم ذلك لا يزال التراث العماني يزخر بكثير من الكنوز التي لم يتم الكشف عنها بعد. ومن ذلك «الصحيفة القحطانية» لابن رزيق التي لم تر النور بعد على رغم أهميتها التاريخية وغناها بالمعلومات عن الأحداث التي شهدتها المنطقة عبر عصورها المختلفة. التعريف بالمؤلف عاصر حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت فترة ازدهار دولة البوسعيد وامتداد نفوذها السياسي إلى إفريقيا زمن السيد سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد (1806-1856م) والذي تعد فترة حكمه من أزهى فترات التاريخ العماني سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وصلت فيها الدولة العمانية أقصى امتدادها وتوسعها الآسيوي والأفريقي. رافق ذلك التوسع السياسي والعسكري نشاط ثقافي وفكري ساهم في تطور الحياة الثقافية في عُمان وبخاصة عاصمتها مسقط التي كانت وجهة كثير من الرحالة والتجار، وكانت تعقد فيها مجالس الأدب، حيث أشار ابن رزيق إلى أنه حضر أحد هذه المجالس عام 1252/1236م، وشارك في إلقاء بعض قصائده التي لقيت استحسان الحضور وإعجابهم. في هذه الظروف التي شهدت تطوراً كبيراً في مناحي الحياة اليومية كافة آنذاك نشأ ابن رزيق موظفاً ومؤلفاً وأديباً حظي باهتمام أصحاب السلطة، فتقرب إليهم ونال من سخائهم وكرمهم ما لم ينله الكثير ممن عاصروه من الأدباء والعلماء، فكان لذلك دور مهم في توسع معارفه واطلاعه على أسرار الدولة وأخبارها وحصوله على كثير من المصادر والمراجع التي أفاد منها في الكتابة والبحث. وعلى رغم المكانة التي نالها ابن رزيق في عصر شهدت فيه عمان تطوراً ثقافياً وحضارياً كبيراً، إلا أن سيرته وحياته الخاصة لم تحظيا باهتمام معاصريه، فمعلوماتنا عن ولادته ونشأته الأولى قليلة جداً، ولا نعرف عنها إلا ما ذكره ابن رزيق نفسه في مؤلفاته. ومن تلك المعلومات ما ذكره في «الصحيفة القحطانية» من أنه شهد جنازة الإمام حمد بن سعيد بن أحمد الذي توفي في مسقط عام (1206/1792م) بسبب مرض أصابه. وكان ابن رزيق يومئذ صغير السن لكنه كان يتذكر الأعداد الكبيرة من البشر. وكان يشرف على الصادرات والواردات في ميناء مسقط، وبعد سقوط دولة اليعاربة أبقاه مؤسس دولة البوسعيد السلطان أحمد بن سعيد (1744-1783م) في منصبه، وكانت تربطه به علاقة حميمة قبل توليه الإمامة، وكان مقرباً منه ومستشاراً له. وبعد وفاة جده رزيق، ورث ولده محمد الوظيفة وعمل فيها وظل على علاقة قوية بالسلطان. هكذا نشأ ابن رزيق في أسرة ميسورة الحال وعاش حياة كريمة في عصر شهدت فيه عُمان تطورات سياسية كبيرة لا شك في أنها أثرت كثيراً في نشأته وصقلت موهبته، وكانت حافزاً قويّاً له لدراسة العلم وقراءة كتب التاريخ والأدب. يتضح ذلك في غزارة إنتاجه العلمي والأدبي وبخاصة كتابه الموسوعي «الصحيفة القحطانية» الذي ضم ضروباً شتى من الأخبار والأشعار والأنساب، وتواريخ الأمم والشعوب القديمة، وربما كانت له مكتبة خاصة جمع فيها تلك المؤلفات والمصادر المتنوعة في الأدب والشعر والتاريخ والفقه والحديث وغيره مما اعتمد عليه في كتابة «الصحيفة القحطانية». أما وفاته فمن المرجح أن تكون قد حدثت بعد مقابلة السيد روس له في عام 1873م، حيث قال عنه: «قد سألت مرة سليل ابن رزيق عن مؤلف كتاب «كشف الغمة»، إلا أنه قد بلغ مرحلة الوهن أو العجز بسبب تقدمه في العمر، فلم أستفد منه شيئاً». فربما يكون قد توفي بعد تلك المقابلة بقليل، حيث لا يرد له ذكر في المصادر المحلية أو الأجنبية بعد ذلك التاريخ. ويعد ابن رزيق الذي ولد على الأرجح سنة 1782 مصدراً مهماً لأحداث القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فهو ينقل رواياته عن أشخاص عاصروا تلك الأحداث، وترك مؤلفات عدة نذكر منها ما هو معروف منها: «الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين»، «الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان»، «الصحيفة العدنانية»، «القصيدة القدسية النورانية في مناقب العدنانية»، «الصحيفة القحطانية». أهمية «الصحيفة القحطانية» شرع ابن رزيق كما ذكر في مقدمة هذا الكتاب في كتابة هذه الصحيفة بعد انتهائه من كتابة «الصحيفة العدنانية» التي ذكر فيها أنساب القبائل المنتسبة إلى عدنان، على اعتبار أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من عدنان، جرياً على العادة التي اتبعها علماء النسب من قبله، إلا أنه أتى بأسلوب جديد في كتابة التاريخ، حيث انه كتب أحداثاً تاريخية وسير تراجم في إطار نسب اليمن وقحطان مضيفاً إليها قضايا فقهية وموضوعات متفرقة للفرق الإسلامية وآرائها واختلافاتها. فهو عمل موسوعي ابتعد فيه ابن رزيق عن النظام الحولي التقليدي المتبع لدى المؤرخين المسلمين وعلماء الأنساب، فعمله هذا قائم أساساً على التعريف بالقبائل اليمانية من أهل عمان، من حيث أصولها وأنسابها والأدوار التاريخية التي قامت بها وعلاقاتها بالقبائل الأخرى، مضيفاً إليهما سيراً وتراجم لمشاهير من أصول قحطانية عاشت في عصور مختلفة ومناطق متفرقة. وتتكون «الصحيفة القحطانية» من مقدمة في أربع صفحات ذكر فيها ابن رزيق سبب اهتمامه وكتابته لها، وثمانية أبواب تقع في حوالى 477 ورقة تبدأ بالتعريف بأصول القبائل القحطانية مروراً بملوكها القدماء وشعرائهم في الجاهلية والإسلام وسير وتراجم المشهورين منها، وانتهاءً بأئمة عمان من أنساب قحطان، وكأنه يعرض لأمجاد هذه القبيلة منذ أقدم الأزمنة إلى عصره، وفي ذلك إيحاء باستمرار الملك والسلطان في نسب القحطانيين. ومعروف أن أزد عمان وهم من القحطانيين كانوا سادة عُمان عبر عصورها المختلفة، وقد نشأ ابن رزيق في ظل دولة البوسعيد وكان على صلة وثيقة بحكامها، فأراد أن يذكّر بالأمجاد التاريخية للقبيلة التي ينحدر منها البوسعيد، من خلال تتبعه للفرع الأصلي قحطان، والقبائل التي تشعبت منه وبخاصة قبيلة الأزد التي ينتسب إليها البوسعيد الذين خصص لهم كتاباً آخر هو «الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين». كذلك احتوت الصحيفة على أخبار مهمة لسير علماء أباضيين وشخصيات وأسر عمانية لم يرد ذكرها في المصادر الأباضية الأخرى، كما ضمنها ابن رزيق بعض رسائلهم الفقهية والعقدية، ولعل هدفه من ذلك هو إبراز إسهامات علماء عُمان في الحضارة الإسلامية عبر عصورها المختلفة. وتحتوي الأجزاء الأخيرة ل «الصحيفة القحطانية» أيضاً على معلومات وأخبار مهمة، نقل ابن رزيق بعضها عن والده وعن غيره ممن كان يكبره سناً وقد ذكر أسماءهم، وبعض هذه الأحداث عاصرها ابن رزيق بنفسه فدوّنها في كتابه هذا المسمى «الصحيفة القحطانية». ولم تقتصر تلك المعلومات على الأحداث والتطورات السياسية والعسكرية، بل شملت أحوالاً وقضايا اجتماعية واقتصادية بما في ذلك الجفاف والأمطار والعملة المستخدمة وبروتوكول مؤسس دولة البوسعيد السلطان أحمد بن سعيد، والصادرات والواردات وموازنة الدولة وعدد الجنود، وغير ذلك من المعلومات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والعسكري. كما ضمن ابن رزيق «الصحيفة القحطانية» قصائد مطولة، منها ما نظمه هو نفسه في مدح أو رثاء أو غير ذلك، كالقصيدة التي عدد فيها مناقب ناصر بن مرشد في الباب الثامن وسماها «المسترشد الهادي في مناقب سيرة الممجد ناصر بن مرشد»، ومنها قصائد متنوعة فيها أخبار علماء وحكام وأئمة أباضيين لا تقل أهمية عن الأخبار التاريخية التي احتوتها «الصحيفة القحطانية». وعن فترة النبهانيين في عمان، لا يأتي ابن رزيق بجديد وإنما ينقل عمن سبقه من المؤرخين العمانيين ويبرر ذلك بقوله: «اعلم أن قوة ملك بني نبهان العمانيين الأولين بعمان كانت في سنة خمسمئة من الهجرة النبوية، ولم أجد لهم تاريخاً يشتمل على كوائنهم البسيطة، لإغفال علماء السير والمؤرخين من أهل عمان لإبراز كوائنهم ومجرياتهم». إلا أنه يعطي معلومات مهمة عن فترة الحروب الأهلية التي وقعت أواخر عهد اليعاربة، فقد حفظ لنا روايات شفهية لأشخاص عاصروا تلك الأحداث، حيث يقول «أخبرني غير واحد ممن شهد أبوه وصحب أبيه ذلك العصر، منهم الشيخ معروف بن سالم وحميد بن سالم وخاطر بن حميد وغيرهم». كما تكمن أهمية الصحيفة القحطانية في احتوائها على عدد كبير من الأشعار والقصائد لبعض مشاهير عمان وشعرائها الذين خصص لهم جزءاً في الباب السابع سماه «شعراء اليمنيين العمانيين الذين اتصل علمي بهم وأحاط بهم فهمي». وقد سار ابن رزيق على خطى من سبقه من المؤلفين العمانيين، فالمنهج العام للكتابة عندهم يقوم على فكرة تداخل العلوم، حيث لا يتم الفصل بين التاريخ والشعر والفقه والحديث وعلم الكلام وآراء الفرق، فالهدف الأساسي هو تثبيت أصول المذهب الأباضي وتعميق أفكاره ومبادئه والتذكير به وبدور علمائه ومكانتهم ومؤلفاتهم والأحداث التي وقعت في عمان عبر عصورها المختلفة. ويختتم ابن رزيق كتابه «الصحيفة القحطانية» باعتذاره عن عدم ذكر أخبار السيد سعيد ابن سلطان بن الإمام أحمد - وهو أول من اتخذ لقب سيد - ويرى أنه «لا يؤرخ لمن هو في قيد الحياة قبل أن يصير في غير قيد الحياة». ومعروف أن السيد سعيد بن سلطان حكم فترة طويلة امتدت من سنة 1806 إلى 1856م، وفي عهده وصلت الدولة العمانية أزهى عصورها ازدهاراً وتقدماً، وكانت البعثات العسكرية والديبلوماسية من أوروبا والولايات المتحدة تفد على بلاطه في مسقط، الأمر الذي يعكس المكانة والأهمية العالمية التي بلغتها عمان في عهده. ويؤخذ على ابن رزيق نقله حرفياً عن المصادر التي سبقته، فقد نسخ فصولاً وأبواباً مطولة من بعض المصادر من دون إضافة أو تعديل أو تعليق منه، حيث نقل غالبية ما كتبه صاحب كتاب «الأنساب» للعوتبي عن أنساب القبائل القحطانية، ونقل أخبار الصحابة المنحدرين من أصول قحطانية من كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، وأخبار ملوك اليمن وأساطيرهم ودولهم من كتاب ملوك الحمير وأقيال اليمن المعروف ب «خلاصة السير الجامعة» لنشوان الحميري. فهو ينقل حرفياً من هذه الكتب وغيرها كما هو مبين في التحقيق. وقد اتبع ابن رزيق الأسلوب نفسه في كتابه «الفتح المبين»، ما دفع مايلز إلى اعتبار الأجزاء الأولى منه نسخة متكررة للمواضيع نفسها التي كتبها مؤلف «كشف الغمة». وعلى رغم ذلك تبقى «الصحيفة القحطانية» مصدراً مهماً لتاريخ عُمان، بخاصة فترة القرن الثامن عشر الميلادي، التي لا يستطيع المختص إغفالها أو الاستغناء عنها. و «الصحيفة القحطانية» مكونة من مقدمة وثمانية أبواب على النحو الآتي: المقدمة: في فائدة الاطلاع على علم الأنساب وما فيه من حصول الآداب، تحدث فيها عن أهمية تدوين التاريخ وعلم الأنساب ومكانته عند العرب. الباب الأول: في معرفة أنساب القحطانية. الباب الثاني: ذكر الأنبياء المتصلة سلسلة نسبهم بالقحطانيين.الباب الثالث: في ملوك بني قحطان وما لهم من مناقب. الباب الرابع: في ذكر أخبار ملوك القحطانيين ومناقبهم الصريحة. الباب الخامس: في ذكر أصحاب النبي المختار من الأنصار، تكلم فيه ابن رزيق عن أشهر الصحابة والصحابيات من الأنصار من الأوس والخزرج من قحطان. الباب السادس: في ذكر التابعين وتابع التابعين من الأعيان المنتسبين إلى قحطان. الباب السابع: في ذكر أسماء شعرائهم في الجاهلية والإسلامية على ما اتصل علمنا به. الباب الثامن: في ذكر الأئمة اليمنية العمانية وملوكهم السلاطين الأساطين القحطانية وما كان في أيامهم من الكوائن الشائعة في القرى والمدائن.