مَن يكتب ملحمة هايتي التي ضربها الزلزال العنيف مسقطاً من الضحايا خلال لحظات، ما يفوق ضحايا الحروب الطويلة؟ هل يكتبها شعراء هايتي أم روائيّوها شبه المجهولين عالمياً، أم أن أدباء غرباء قد يستوحون هذه الفاجعة الطبيعية «الأبوكاليبسية» في أعمال يكتبونها من بعيد؟ طرحت هذه الأسئلة نفسها عليّ عندما كنت أقرأ النص الصغير والأليم الذي كتبته الروائية الهايتية كيتلي مارس في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية. وقد عاودتني هذه الأسئلة نفسها عندما تصفحت الملف الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» أخيراً، عن الأدب الهايتي، وقد تضمّن قصائد ومقطوعات نثرية، ترجم معظمها عن الفرنسية وبعضها عن «الكريولية» أو العامية الهايتية. وهذه الأصوات الشعرية يعرفها قرّاء الشعر الفرنكوفوني، وبعضها ورد في «المختارات» الشعرية الزنجية الشهيرة التي وضعها ليوبولد سيدار سنغور، شاعر السنغال ورئيسها السابق، وهي لا تزال مرجعاً للشعر الزنوجي المكتوب بالفرنسية. لماذا نجهل أدب هايتي الذي يمثل فعلاً أحد أجمل تجليات الأدب الزنجي القديم والمعاصر؟ هل تكفي تلك الأسماء القليلة المعروفة في العالم الفرنكوفوني لتصنع صورة عن هذا الأدب المجهول الذي بدأ باكراً، وتحديداً بعد الاستقلال الذي حصلت عليه هايتي عام 1804؟ ليس الأدب الهايتي، على رغم نزعته الانطوائية، غريباً عن أدب التحرر في العالم. فهذا الأدب الذي أصيب في منشأه ب «لوثة» الكولونيالية ما لبث أن خرج، مع زوال الاستعمار الفرنسي، الى شمس الحرية. لكنه لم يستطع أن يتخلى عن المثال الفرنسي الذي كان مرجعه الوحيد، فرافق الحركة الرومنطيقية في القرن التاسع عشر ثم الحركة البرناسية والرمزية، ثم انفتح على الرواية البسيكولوجية التي راجت حينذاك في فرنسا والراوية الطبيعية... حتى السوريالية الفرنسية كان لها أثر في شعراء كثر، وقد زار أندريه بروتون «زعيم» السورياليين هايتي عام 1946 وحاضر في مدينة بور أو برنس والتقى الشعراء والمثقفين. اللافت أن الأدب الهايتي عرف أكثر من صدمة خلال تاريخه الطويل والعريق. فما أن تحرّر المثقفون من قبضة الاستعمار الفرنسي وباشروا في ترسيخ ثقافتهم «الأهلية» حتى فاجأهم في العام 1915 الاحتلال الأميركي الذي وضعهم وجهاً لوجه أمام مأزق الهوية أو الانتماء الثقافي. ودام هذا الاحتلال «المسيّس» تسعة عشر عاماً كانت كافية لإحداث «هزة» داخل الكيان الذي لم يتسنّ له أن يرسّخ نفسه تماماً. أما الصدمة اللاحقة فكانت في هيمنة الحكم الديكتاتوري الذي قاده فرنسوا دوفالييه بدءاً من العام 1957، والذي راح يضطهد المعارضين ويخنق فسحة الحرية ويمارس قسوته على الصحافيين والكتاب. وكان هذا التاريخ منطلقاً لمرحلة أدبية جديدة هي أدب المنفى. وقد هاجر الكتّاب المعارضون الى فرنسا وكندا وسواهما، وراحوا يواصلون مسيرتهم الأدبية في منفاهم «الفرنكوفوني». وقد لمع في فرنسا الشاعر والروائي رينه ديبتر، لكن شهرته لسوء الحظ لم تتخطّ الخريطة الفرنكوفونية العالمية. أما مرحلة الحكم الديكتاتوري هذه فكانت مثار اهتمام الشعراء والروائيين مثلها مثل المراحل الشائكة سابقاً. وقد تناولتها الروائية كيتلي مارس في روايتها الجديدة الصادرة حديثاً في باريس (دار مركور دو فرانس) وعنوانها «فصول متوحشة». تروي كيتلي مارس المعاناة التي قاساها المواطنون خلال فترة الحكم الديكتاتوري وتغوص في التفاصيل الصغيرة، معبّرة عن الحياة اليومية القاسية في ظل هذا الحكم. وقد تكون هذه الرواية شاهداً آخر على مأسوية التاريخ الهايتي، وعلى قَدَر هذه البلاد البعيدة التي لم تعرف حالاً من الطمأنينة والاستقرار. فالاستعمار الفرنسي أنهكها طوال عقود، ثم تلاه الاحتلال الأميركي ليذلّ شعبها، ثم أعقبه الحكم الديكتاتوري بقسوته الأهلية... ولم يكن الزلزال الأخير إلا تتويجاً لهذا التاريخ الملحمي الأسود. هل ستكتب كيتلي مارس رواية عن الزلزال الذي فاجأت الطبيعة الجميلة به أهل هايتي؟ كم كتب الشعراء الزنوج الهايتيون سابقاً عن جمال الغروب الكاريبي وعن سحر الفجر الربيعي، وعن سعادة المزارعين في الحقول وألق النسوة الزنجيات! كم قرأنا من قصائد عن الأجداد والتقاليد الدينية الفريدة والطقوس والألم والتفرقة العنصرية والحلم الأفريقي والموسيقى الزنجية... وما زلت أذكر القصيدة الشهيرة جداً التي كتبها الشاعر الوطني الرائد أوزولد دوران والتي نشرتها معظم «الأنطولوجيات» الشعرية، وفيها يرثي، هو «ابن الشمس»، «الشديد السمرة»، حبه لفتاة فرنسية تدعى «ليز»، لم يحظ ب «نظرة من عينيها المبهورتين». أدب هايتي يحتاج فعلاً أن نكتشفه.