الربط المعرفي الرقمي منهج مقدس، إذ نجد في القول النبوي «ثلاث من كن فيه...»، و«اغتنم خمساً...»، و«ثلاث منجيات...» إلخ، وعلى هذا المنهج أتحدث عن الانحرافين المعرفي والسلوكي في أبعاد أربعة «الجهل، الخوف، الأنا، الكسل»، هي المكونة لهما والمشكلة لبداياتهما، وهي في ما بينها منظومة يغذي بعضها بعضاً، إذ التخلف منظومة كما الحضارة كذلك. الجهل: ليس هو الذي تنطلق منه المعرفة حين يدرك الإنسان نقص علمه بالشيء فيدفعه هذا الإدراك إلى علم الأشياء والتعرف عليها، فهذا جهل في الشكل، علم في المنفعة والمؤدى، وهو ما يُسمى ب «علم الجهل»، لكنه الجهل الذي يؤسس للانحراف في المعرفة والسلوك، الجهل بالذات كقيمة ووجود وكمنهج ومسار وكغاية وهدف ورؤية، هو جهل يغري بجهل أكبر منه يتركب منه الظلم والقهر والاستبداد والكبر وغمط الناس كل من موقعه ومكانه، فالجاهل هذا يسخر إمكاناته وقدراته لخدمة جهله، وسيجد في الناس من يعمل على شاكلته، كما سيطال الناس منه ما يقهرهم ويضيع حقوقهم ويسلب ذاتيتهم. وفي منطقة الجهل هذه تنبت بذرة الانحراف، بذرة خبيثة لا يمكن رؤيتها حال تشكلها وحال نشأتها إلا بعين الخبرة والدراية والنقد المبصر، والسكوت عنها أو سقيها بالمال والسياسة، والتقاليد والعادات سيجعل من الصعب اقتلاعها. البُعد الثاني: الخوف، وهو نتاج سابقه، خوف مصدره الوهم، خوف من المجهول حين تستعد منهجية التفكير لاستقبال المفاجآت وإدارتها كحال طوارئ الإسعاف والإطفاء. إننا نصنع وبجدارة حال الخوف هذه، فنحن لا ندرس علم المستقبليات كما ندرس وقائع وأحداث التأريخ، التأريخ الذي تشكلت منه طرائق تعاطينا مع واقعنا أو رؤيتنا لمستقبلنا، وما التفكير بعقلية المؤامرة إلا بعض ما عندنا... الخوف قتل فينا روح التلقائية والإبداع، ورسخ فينا الانكفاء والاكتفاء، والفهم بأننا مستلبون حضارياً وعلمياً، ولا همّ لنا إلا التفكير بإعادة ماضينا، والنتيجة لا هذا ولا هذا «لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع»، ولو أننا تربينا على شيء من المغامرة والإبداع، وأخذنا من الجنون جماله، وغادرنا بعض قناعاتنا الغالطة، وتعالجنا من أوهامنا المخطوطة على الرمل والمكتوبة على الماء لأبصرنا خريطة طريقنا ورسمنا جغرافية فكرنا، ولشاركنا أهل الأرض حضارتهم. الشيء المضحك المبكي، أن كل من يمارس التفكير السلبي، آنف الذكر، ويحارب غيره محافظاً على وجوده زعم، هو لا يمارس حربه بغير تقنيات وأدوات لم يشارك في صنعها ولا في توجيه استخدامها، وشر الشرين أن تتم هذه المحافظة الموهومة وتشن الحروب الاستنزافية تحت ستار التدين والقناعة والهوية والوطنية و... و... إن قدراً من الوعي لا بد أن يحصل وإلا فالأمر خطر والسكوت مخاطرة، هذا هو الجهل الذي يجب رفعه، وليس تعليم حروف الهجاء! ولمجموعة من كبار السن الذين لا يعود تعليمهم على الواقع بشيء، إذ سيتطوع الناس بتشييعهم إلى مثواهم. أما المحور الثالث فهو «الأنا»: والحديث عن الأنا والفردية، أو الحديث عن العقل الجمعي وسيطرته، حديث ذو شجون، إذ إن معاناتنا كبيرة في سلوكيات ومعارف هنا وهناك، «الأنا» التي هي بنية في الانحراف هي «أنا» المتشبع بما لم يعط «أنا» التي لا تعني إلا «أنا» بمنطق النرجس، هي «الأنا» التي تعني السيطرة والقهر لأجل «الأنا» إنها الذميمة والرذيلة، إنها غياب الوعي ومسخ الإدراك، والانفصال على الذات، إنها الأنانية القاتلة دمرت الأفكار وأشاعت الدمار، فغاب القصد الأممي والمصلحة للجميع... نجد «الأنا» وهي تقضي على مشاريع النهضة والارتقاء، ونجدها وهي تتدخل في القرار، ونجدها وهي تؤسس منهج العلم والتربية، هذه الأنا لم تترك حضارة ولا سمحت لغيرها. المجتمعات الأنانية دونية ومتخلفة وضعيفة، بيد أن المجتمعات الأنوية «= أنا و...» هي مجتمعات حضارية بنائية تكاملية. ويبكيك كما يضحكك أن المجتمعات «الأنانية» عالة على المجتمعات «الأنوية»، لأن الحقيقة في كل شيء تغلب المظهر في كل شيء، ولا مخرج من هذا المأزق إلا بتأسيس تربوي تعليمي يحترم الحقيقة ويسعى إليها ويتشكل معها، كما يتشكل لديه القدرة والقوة على تبديل القناعات وتغيير السلوكيات، وما لم يكن فلن يكون!! أما البُعد الرابع: فهو الكسل، ليس الكسل الجسدي وإن كان عبئاً ثقيلاً، لكن ثمة كسلاً ذهنياً يقعدنا عن البحث والدراسة، كسل يغرينا بالوجبات الجاهزة، كسل لا نمارس معه حراكاً إلا حركة التقدم الهدام، والاستنقاص للأعمال والأشخاص. هذه الرباعية الخطرة - كما أسلفت - يدعم بعضها بعضاً، فإذا كان الجهل أورث الخوف، فإن تضخم «الأنا» أورثها شبعاً من رديء الأغذية أقعدها وأكسلها، فالأفكار كما الأجساد تمرض!! شفى الله وكفى. [email protected]