بعد الانتهاء من رسمه تفاصيل الخريطة الوراثية «الجينوم» عند البشر، شهد المجتمع العلمي العالمي إعلاناً أوروبياً يشير الى ان الورشة العلمية العملاقة المقبلة في علم البيولوجيا تتصل بتفكيك رموز الخرائط الوراثية عند أنواع البكتيريا التي تعيش بصورة طبيعة في الجسم البشري. وتوجد هذه الأنواع في الجهاز الهضمي والأمعاء والأنف والفم والأذنين وفوق سطح البشرة وغيرها. وتبدأ في التكوّن مباشرة بعد الولادة. ويفوق عدد انواعها الألف، في ما يصل عددها إجمالياً الى عشرة أضعاف خلايا جسم الإنسان. وعالم هذه الكائنات اضخم وأعقد بكثير من عالم الجينات الموجودة في البشر. ومثلاً، يحتوي الجينوم البشري على قرابة 30 ألف جين، فيما يصل مجموع عدد جينات هذه الأنواع من البكتيريا الى قرابة 3 ملايين جين. وإذ مثّل التعرّف الى تركيب الجينوم إنجازاً أميركياً في الأساس، مع مشاركة عالمية واسعة، يبدو الاعلان الأوروبي وكأنه يرفع راية التحدي، واضعاً جينات البكتيريا هدفاً للسباق العلمي المقبل بيولوجياً. ويُذكّر ذلك بما حدث في مجال سباق الفضاء في القرن العشرين. إذ حقق الاتحاد السوفياتي، حينها، سبقاً في إطلاق القمر الاصطناعي «سبوتنيك» (1957). وسرعان ما رفعت الولاياتالمتحدة، بصوت الرئيس جون كينيدي، راية التحدي مُعلنة ان الهدف المقبل للسباق سيكون الوصول الى القمر. واستطاعت ان تُنجز ما وعدت به. هل تكرر أوروبا في البكتيريا وجيناتها، ما فعلته أميركا في الفضاء؟ وهل تسير أمور السياسة على نحو مُشابه أيضاً؟ أم ان التكرار أمر صعب في التاريخ؟ سؤال لم يحن وقت الإجابة عنه. في المقابل، لا يعرف العلماء الكثير عن الأنواع الألف من البكتيريا المتعايشة مع البشر. ولكن، من المعلوم أن بعضها شائع الاستعمال في المختبرات، وأن وجودها في الجسم يؤدي دوراً مهماً في نظام المناعة وفي تعامل الجسم مع الفيتامينات وغيرها. وكذلك يعرف عن بعض تلك البكتيريا أنه مُعمّر، بمعنى أنه ما فتئ يتناسل ويتكاثر منذ ملايين السنين. الخطوط العريضة للمشروع العلمي بعد دراسة الجينوم البشري، ظهر ميل الى رسم الخرائط الوراثية للحيوانات على أنواعها. وفي المقابل، ظهر اتجاه آخر ينادي بضرورة التركيز على البكتيريا المتعايشة مع البشر، بالنظر الى أهميتها في صحة الإنسان واتصالها بأسباب بقائه. في اطار اوروبي ستتم دراسة هذا المشروع على مدى السنوات الأربع المقبلة بموازنة 20 مليون يورو، يأتي نصفها من الاتحاد الاوروبي. وتساهم في المشروع عشرات من مؤسسات البحث، خصوصاً من فرنسا وبريطانيا، إضافة الى مساهمة واسعة من الصين وأميركا. وتتطلب ضخامة المشروع توفير خبرات علمية ضرورية وتقسيم المهمات على الصعيد العالمي وتكاملها، ما يفيد في سرعة ظهور النتائج ووضعها في إطار استفادة إنسانية عميمة. ويسعى المشروع أيضاً الى دراسة علاقة البكتيريا المتعايشة في الجسم مع ظاهرة البدانة والتهابات المعدة وأنواع الحساسية والأمراض المزمنة وغيرها. واستطراداً، يحتمل ان تؤثر نتائج هذه الدراسات في مستقبل الصناعات الغذائية وصناعات الأدوية واللقاحات وغيرها.