يا بحر! يا من ينبض قعرك بحيوات مختلفة عن حياتنا! يا واسع الصدر لحكايات العشق والعشاق! مناشدتنا اليوم تختلف عن سابقاتها. صرخاتنا الصامتة موجّهة إلى زرقتك، صرخات نحيب تستعر في صدورنا. وحكاياتنا التي نحملها لك مكفّنة بأبيض أمواجك الغاضبة. حكاياتنا اليوم، مبللة بدموع أهل وأطفال وأقارب وأصحاب وأحباء، لم يبق لهم من أعزائهم إلا صورة، وطعم قبلة وداع أخيرة على وجناتهم. حكايتنا تبدأ عندما رفضت السماء التي تستمد لونك منها أن تستقبل في فضائها طائرة، على متنها ركاب حملوا ماضيهم وحاضرهم وأحلام مستقبلية. روان عروس مهاجرة إلى الغربة مع عريسها. جوليا طفلة لا تقل جمالاً عن مياهك عندما تتراقص تحت أشعة الشمس. لانا الاثيوبية التي أمضت سبع سنوات في ربوع وطنك، قبل أن تتوجه حاملة جنى العمر وتعب السنين ومرارته إلى ذويها. وغيرهن... هؤلاء جميعهم انتهوا في ساعة فجر إلى قعرك، وكثرت الروايات. لكن الاسئلة بدت كثيفة كملوحة مياهك: بمَ شعرتَ عندما رأيت حطامها يتناثر فوق سطحك المضاء من قمر بعيد؟ هل ارتعدت أمواجك رافضة استقبال طائرة ممزقة، أم أنك فتحت صدرك مرحباً تماماً كما تفعل مع حكايات العشق وأسراره؟ وحدك الشاهد على ما حدث. السماء بعيدة لا نستطيع سؤالها. أمّا أنت فقريب منّا. نتوسّل الصمت لكي نستمع إلى روايتك أنت. قل لنا هل وصل أحد من أحبائنا حيّاً إلى صفحة مياهك؟ هناك في المستشفى، بدت العيون تعبة من كثرة البكاء، فصمتت الحشود في انتظارك. في انتظار أن تنبش أمواجك أجساد أقاربهم. وصل عدد قليل منها بعد أن تلونت بلونك. توحد الجميع عندما ارتطموا بزرقتك. لم يبدُ على بشراتهم الزرقاء إلى أي عرق أو جنسية أو طائفة ينتمون. هول الصدمة بان كبيراً بكبرك، فشخصت العيون الدامعة إلى فضاء السماء. يصعب التكهن بما إذا كانت نظرات عتاب أم نظرات ملامة. السماء تفاعلت بالطريقة نفسها، حاولت حبس أمطارها. اتشحت بالغيوم الداكنة. ظهرت متضامنة مع أهالي ضحايا غدرت بهم بطلب من القدر! حسرت ماءها علّها تخفف من وقعه عليك عساك تهدأ من روعك بعد أن ضاق قاعك بالجثث. أشخاص أبت أرواحهم أن تفارق أرض الوطن فتناثرت ذرّات في سمائه قبل أن تغتسل بمياهه لتعود بعدها وتعانق ترابه إلى الأبد. يا بحر! باسم كل من أحبك كن رحوماً بأناس ركنوا إلى قاعك. يا بحر! باسم أبديتك، كن رؤوفاً بذوي الضحايا وارجع إليهم أحباءهم.