تكشف قرارات «هيئة المساءلة والعدالة» باستبعاد مئات المرشحين من الانتخابات البرلمانية المقبلة، عن صراعات متعددة الأهداف، وتحتمل قراءات مختلفة سياسية وقانونية، لكنها تستبطن استمراراً للصراع بين قوى متنافسة، محلية وإقليمية ودولية، على الحكم والنفوذ في عراق ما بعد نظام الرئيس الراحل صدام حسين. ويُعتقد أن الوجه الأبرز لهذا الصراع هو ذاك الخفي الذي يدور بين إيران والولايات المتحدة، الذي لم يتوقف منذ غزو العراق واحتلاله عام 2003. وتعتبر أزمة المستبعدين اختباراً لمدى حجم النفوذ الأميركي عشية الانسحاب الأساسي للقوات المقاتلة منه في آب (أغسطس) المقبل بعد الانسحاب الأول في تموز (يوليو) الماضي. وتشكل زيارة نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن الى العراق امتحاناً أولياً. وفي المجال الداخلي يمكن تلمس الملاحظات الآتية: أولاً - قرارات «المساءلة والعدالة» واجهت ردود فعل متفاوتة، بل ومتناقضة، لدى القوى السياسية ما يعكس الانقسام السياسي الذي لم تستطع حكومة الائتلاف الوطني ولا سلسلة المصالحات الوطنية أن تلغيه أو تخفف منه. لا بل يبدو من ردود الفعل المتباينة أن كل القوى السياسية الحالية المتنافسة تستفيد من هذه الأزمة التي سببها قرار الاستبعاد، وتسعى الى استثمار التداعيات التي أدت إليها من طريق تجييش الشارع بالشحن السياسي - الطائفي المتواصل للاستفادة منه في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي لا يفصلنا عنها سوى 6 أسابيع. ثانياً - وفرت تصريحات بعض السياسيين عن «عودة قوية للبعثيين الى البرلمان» نتائج عكسية، كما وفرت التفجيرات الثلاثة الدامية التي ضربت بغداد في آب وأيلول (سبتمبر) وكانون الأول (ديسمبر) العام الماضي، فضلاً عن التفجيرات التي ضربت النجف منتصف الشهر الجاري، فرصة كبيرة ليس فقط لاتهام البعثيين بكل الإخفاقات الأمنية والمشاكل الداخلية، بل وشحن الرأي العام ضد عودة البعثيين. وفي هذا الجو المشحون جاءت قرارات «هيئة المساءلة والعدالة» وكأنها تصب الزيت على النار التي تحت الرماد. وعلى رغم أن الهيئة تؤكد أن حظر المرشحين تم وفق أسس قانونية وانسجاماً مع تفسير المحكمة الاتحادية للمادة السابعة من الدستور، وليس وفق دوافع مذهبية أو سياسية، مشيرة الى أن المحظورين من الشيعة أكثر من السنة، ارتفعت أصوات تتهم «المساءلة» بالتمييز الطائفي والاستهداف السياسي للخصوم وخدمة أهداف إيران. وفي المقابل انطلقت تحركات شعبية تندد بمحاولات تجميد قرارات الاستبعاد في محافظات الفرات الأوسط والجنوب، خصوصاً النجف والبصرة والسماوة والعمارة. وتأتي هذه التحركات الشعبية بعد أيام من إعلان محافظات النجف وذي قار والديوانية حرباً مفتوحة على «البعثيين»، والدعوة الى إبعادهم عن العملية السياسية «تحت أي مسمى» كان. وترمز هذه التحركات الشعبية وقرارات مجالس المحافظات الى وجود قوى ضغط داخلي كبيرة في وجه الضغوط الخارجية، خصوصاً الأميركية، لتجميد قرارات حظر المرشحين البعثيين. ويحذر أحد المراقبين من الاستهانة بهذه القوى الداخلية لافتاً الى أن الضغوط التي تمارسها ربما تكون أكبر من الضغوط الأميركية. ثالثاً - أعادت الأزمة إظهار الاصطفافات الداخلية بشكل أوضح: فالمرشحون المحظورون من المشاركة ينتمون الى شرائح واسعة من القوى والأحزاب والكيانات بما في ذلك «ائتلاف دولة القانون» بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي إذ استبعد 35 مرشحاً من قائمته، كما استبعد 20 مرشحاً من «الائتلاف الوطني العراقي» و67 مرشحاً من «ائتلاف وحدة العراق» بزعامة وزير الداخلية جواد البولاني ورئيس مجلس صحوة العراق احمد أبو ريشة. كما كشفت لائحة المستبعدين انها تضم اسماء مرشحين شيعة أكثر من السنة. رابعاً - يسعى المعارضون للاجتثاث الى استدراج تدخل دولي وعربي، في مقابل رفض القوى الأخرى أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية. وفي هذا مفارقة كبرى: إذ أن المعارضين كانوا من أبرز رافعي شعارات مقاومة الاحتلال الأميركي ودعاة الاستقلال والحرية، كما يكشف ضعفاً داخلياً يتم استدراكه باستدراج تدخل خارجي. على أن رد الفعل الأميركي اتسم بداية ببرود لافت، تطور الى مناشدة العراقيين حل الخلافات بطريقة سلمية وصولاً الى إعلان القلق من تأثير هذه الأزمة على الاستقرار في العراق وتأثير ذلك بالتالي في الخطط الأميركية. ووصل رد الفعل الأميركي الى ذروته بزيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الى بغداد بعدما استبق هذه الزيارة بتقديمه اقتراحاً يقضي بتأجيل البت بقرارات الحظر الى ما بعد الانتخابات وتشكيل «المساءلة بكامل هيئتها»، مع تقديم المرشحين تعهدات خطية بإدانة حزب البعث والتبرؤ منه. ويواجه التدخل الأميركي، الذي يستدرجه المعارضون للاجتثاث، تلقائياً برفض داخلي من القوى الأخرى، بل يزيد تصلب هذه القوى. ويبدو أن هذه القوى، وعلى رغم الدعم الأميركي لها، لا تفوت الفرص لإبداء رفضها للوصاية الأميركية والتعبير عن غضبها من التدخل في الشؤون الداخلية. وفي المقابل يعلق الرافضون قرارات «المساءلة والعدالة» آمالاً كبيرة على التدخل الخارجي لوقف هذه القرارات. وفي هذا الإطار يؤكد أبرز رموز المعارضين زعيم «الجبهة الوطنية للحوار الوطني» صالح المطلك وجود اتصالات لديه مع الأميركيين والأوروبيين والأمم المتحدة لوقف قرارات «المساءلة والعدالة»، مواصلاً اتهاماته لإيران بالوقوف وراء حملة لإبعاده سياسياً. وفي تصريحات المطلك الأخيرة واقتراح بايدن يتجلى البعد الخارجي، الإقليمي والدولي، للصراع في العراق، متخذاً هذه المرة عنواناً قديماً جديداً: البعث. وتتضاءل أمام هذا البعد من الصراع كل الأبعاد الداخلية الأخرى على أهميتها. لا بل أن الصراع الدولي، وتحديداً الأميركي - الإيراني، يتكئ في كثير من زواياه على الخلافات الداخلية. وإذا كان الموقف الإيراني من «البعث» ثابتاً لم يتغير إلا أن الأمر المثير هو تغير الموقف الأميركي من «البعث»، إذ لم يستمر التوافق بين واشنطن وطهران في العداء للبعث طويلاً. ويجزم مطلعون بأن بريطانيا هي التي تقف وراء تغير الموقف الأميركي. إذ استشعرت لندن مبكراً غياب أو ضعف القوى القادرة والمنظمة التي يمكن حشدها لمواجهة إيران في العراق باستثناء البعثيين. ومن الواضح عدم قدرة الأطراف العراقية على إيجاد حلول لأزمة استبعاد المرشحين بسبب الخلافات بينها، فضلاً عن أن معالجة هذه الأزمة تواجه صعوبة مضاعفة متأتية أساساً من الطابع القانوني لهذه القضية. فالأمر يتعلق ب «هيئة المساءلة والعدالة»، التي حلّت مكان «قانون اجتثاث البعث» عام 2007. والهيئتان أقر البرلمان تشكيلهما لوضع ضوابط للمرشحين للانتخابات، علماً أن البرلمان لم يقر حتى الآن تشكيلة الهيئة على رغم موافقته على قانونها الخاص مطلع 2008. وإذا تم رفض قرارات «المساءلة والعدالة» بعد تشكيك البعض بمشروعيتها، فإن أزمة أخرى أعمق ستنشب نتيجة تغييب الضوابط التي تتمسك بها قوى سياسية كبيرة. وعلى رغم رفض رئاستي البرلمان والحكومة العراقية اقتراح بايدن وأي تدخل خارجي في قرارات «المساءلة والعدالة»، نجحت الضغوط الأميركية الأخيرة في حصول اختراق داخلي تمثل بموقف لافت لرئيس الجمهورية جلال طالباني الذي شكك بمشروعية «الهيئة»، داعياً الى إيجاد مخرج سياسي لهذه الأزمة، التي يخشى مراقبون أن تؤدي الى تأخير إجراء الانتخابات المقررة في 7 آذار (مارس) المقبل، علماً أن طالباني كان شن قبل أيام حملة عنيفة على البعثيين داعياً الى محاكمتهم، خصوصاً النائب ظافر العاني. فهل تنجح الديبلوماسية الأميركية في اجتراح تسوية على غرار تسوية قانون الانتخابات؟ الأمر ليس مستحيلاً، لكنه ليس بهذه البساطة هذه المرة، والتسوية تعتمد الى حد كبير على موقف ايراني مرن لا يبدو انه تبلور بوضوح بعد.