الجدل الواسع حول احتمالات اندلاع حرب جديدة في المنطقة قد يشنها الجيش الإسرائيلي، انتظم أخيراً في إطار وجهتي نظر أساسيتين: الأولى ترى أن التصريحات والتهديدات الإسرائيلية التي تطلق بموازاة التحضيرات الميدانية ليست أكثر من «حرب نفسية» وعملية ابتزاز هدفها تعميق الخلافات العربية، فيما تميل الثانية إلى أخذ المسألة على محمل الجد، واعتبار أن ما يحدث تحضير حقيقي لمسرح المعركة المقبلة. ومع أن البعض يحيل هذه التهديدات الإسرائيلية، وبالأخص ضد «حزب الله»، إلى محاولة تل أبيب منع كسر معادلة «الردع المتبادل» وانحرافها لمصلحة الحزب، بعد تعاظم قدراته العسكرية النوعية، فإن ثمة من يرى أن إسرائيل أخرجت لبنان من دائرة أطماعها في هذه المرحلة، وباتت جل جهودها منصبّة، راهناً، على سلاح المقاومة وما يمثله من تهديد لواقعها ومستقبلها. أي أن هذا السلاح بات هو الكابح للأطماع الإسرائيلية التي لا يمكن إعادة إنتاجها إلا باجتثاثه، كما يرى أن أي عدوان جديد محكوم بقدرات الإسرائيليين العسكرية وتقديرهم للأثمان المقابلة. وبالتالي، فإن أية قراءة هادئة لتهديدات وزير الحرب ايهود باراك، وغيره من الإسرائيليين، لا تفيد باستعداده، وجيشه، للتوجه نحو الحرب بقدر ما تؤشر الى السعي إلى إيجاد رادع أو كابح إضافي حيال «حزب الله»، من شأنه أن يمنع تنفيذ عمل «عدائي» ضد إسرائيل، قياساً وانطلاقاً من قدراته التي تتعاظم يوماً بعد يوم. أي أن تل أبيب في وضع المضطر إلى إطلاق التهديدات المصحوبة ببعض الإجراءات الميدانية، وإيصال رسالة إلى «حزب الله» مفادها أن أي إخلال بتوازن القوى والرعب من جانبه سيقابل برد مروّع. معطيات او حيثيات الرؤية الأولى التي تحاول تنفيس الاحتقان الذي تشيعه التهديدات والتحضيرات الصهيونية، يبدو وكأنها تتوكأ على تجربة العدوان على لبنان صيف 2006، ونتائجها وتداعياتها التي أسقطت أسطورة «الردع الإسرائيلي» وحولت الجبهة الداخلية والمدن والبلدات الصهيونية إلى أهداف لصواريخ «حزب الله»، وأفضت إلى تشكيل لجنة تحقيق داخلية (لجنة فينوغراد) حاولت تحديد مواضع التقصير والخلل، ورسم «خريطة طريق» جديدة للحرب المقبلة. كما تستند كذلك إلى الثغرات التي كشفتها محاولات ترميم قوة الردع الإسرائيلية بما فيها عمليات التسلح المكثفة، ونشر منظومة صواريخ مضادة للصواريخ (القبة الحديدية)، والمناورات العسكرية وعمليات الدفاع المدني، ناهيك عن النتائج الكارثية التي يمكن أن تتسبب بها أية حرب إسرائيلية مقبلة، سواء أكانت ضد إيران التي أعلنت أكثر من مرة أن ردها سيكون ساحقاً، ولن يطاول فقط قلب إسرائيل ومنشآتها الحيوية، وإنما أيضاً القوات الأميركية في المنطقة، فضلاً عن استهداف السفن الحربية الموجودة في الخليج (أكثر من 90 سفينة)، وفق ما أعلن وزير الدفاع الإيراني أحمد وحيدي أخيراً، ناهيك عن التداعيات الاقتصادية التي سيخلفها إغلاق مضيق هرمز، أو كانت ضد «حزب الله» الذي يقدر وزير الحرب الإسرائيلي ايهود باراك أن تكون قدراته الصاروخية «تجاوزت عتبة الأربعين ألف صاروخ منذ زمن»، من بينها، بحسب زعم مجلة «جينز» البريطانية، نقلاً عن مصادر عسكرية صهيونية، صواريخ أرض - أرض متطورة من نوع M600 نشرها الحزب على الأراضي اللبنانية، ووجّه نحو 200 منها إلى «كل مدينة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة»، وهي صواريخ تتميز بقدرتها على الوصول إلى مناطق واسعة في إسرائيل، وقادرة على الإصابة الدقيقة للأهداف، فضلاً عن أنها قادرة على إحداث دمار كبير، إذ إن الرأس الحربي يزن 500 كيلوغرام. ومع ذلك، يصعب الاستخفاف بحقيقة او خلفية الحراك العسكري والميداني الإسرائيلي، وتجاهل الربط ما بين التحضيرات والتدريبات العسكرية، المشتركة مع الأميركيين، والمستقلة، وتجارب نظام «القبة الحديدية» المضادة للصواريخ، وتمرينات الجبهة الداخلية الإسرائيلية على حرب الصواريخ الجرثومية والكيماوية، والتهديدات باجتياح قطاع غزة ثانية وإعادة السيطرة على محور الحدود مع مصر، وترك الأميركيين بطاريات عدة مضادة للصواريخ في إسرائيل بعد المناورات المشتركة قبل فترة، فضلاً عن تخزين معدات وذخيرة أميركية بقيمة 800 مليون دولار في إسرائيل، وارتفاع منسوب التصريحات والتحليلات والدراسات التي تشير إلى أن القرار الأميركي - الإسرائيلي بضرب إيران بات قاب قوسين أو أدنى، إن لم يكن اتخذ بالفعل، ولا سيما بعد طلب حكومة نتانياهو من برلين الحصول على غواصة «دولفين» سادسة، وانفتاح الباب، مجدداً، أمام خططها لإرسال هذه الغواصة إلى المياه الدولية في الخليج العربي، في رسالة للعالم أجمع مفادها أنه إذا لم يتحرك هذا العالم بسرعة لتطويق إيران بعقوبات مشددة وكافية، فإن تل أبيب ستتصرف، وأن خيارها العسكري لن يغيب عن المائدة. وبالتالي، يمكن الاستنتاج أن ما يحصل من مناورات سياسية ليس أكثر من عملية نشر ستار من دخان التضليل الاستراتيجي، بهدف تأمين ظروف عامل المفاجأة في الضربة الاستباقية المقبلة. على أن الهدف الأكبر لإسرائيل يبقى ايران. ولأن تل أبيب لا تستطيع شن ضربات عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية من دون موافقة الولاياتالمتحدة وتأييدها ودعمها، فإن التمعن في الإشارات الأميركية الأخيرة حيال هذه القضية يكتسب أهمية استثنائية. ويبدو أن الأبرز في هذه الإشارات اثنتان، الأولى اعتراف قائد القوات الأميركية في العراق وأفغانستان الجنرال ديفيد بترايوس بوضع الولاياتالمتحدة خططاً عسكرية في شأن المنشآت النووية الإيرانية تتضمن «عمليات قصف»، وقوله خلال مقابلة بثتها شبكة «سي ان ان» يوم 10/ 1 الماضي، أنه «سيكون من غير المسؤول ألا تفكر القيادة الاميركية الوسطى المسؤولة عن المنطقة في سيناريوات عدة وأن تضع خططاً للرد على مجموعة متنوعة من الأوضاع»، وتأكيده أن المنشآت النووية الإيرانية «يمكن أن تتعرض للقصف»، والثانية تتعلق بتلك الدراسة التي نشرها اخيراً مركز العمل الوقائي (Center for Preventive Action) التابع لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، وقوّم فيها فرص او أخطار الضربة العسكرية «الإسرائيلية» لإيران. في الإشارة الأولى المتعلقة بتصريحات الجنرال بترايوس، يمكن القول إنه، وعلى رغم عدم غياب المخططات العسكرية ضد إيران يوماً عن طاولات البنتاغون، إلا أن إطلاقه، وفي هذه المرحلة الحرجة بالذات، يكتسب أهمية خاصة، لا سيما أنه يتعانق بقوة مع الرغبات الإسرائيلية، وينهل من معين المشهد الأميركي بعد إظهار استطلاع للرأي أجراه مركز «بيو» لاستطلاعات الرأي في واشنطن على عينة من 1500 أميركي، أن 63 في المئة من الأميركيين يساندون سياسة التفاوض المباشر بين واشنطن وطهران في شأن البرنامج النووي الإيراني، غير أن 61 في المئة من المستطلعة آراؤهم ذهبوا إلى أن منع إيران من إنتاج أسلحة نووية، حتى لو تطلب شن عمليات عسكرية ضدها، أهم من السعي لتفادي نزاع عسكري معها. أما بالنسبة الى الإشارة الثانية المتعلقة بالدراسة، فإن ما يلفت هو تشديدها على أن القرار الصهيوني بشن الهجوم اتُّخذ بالفعل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستعدادات العسكرية الجوية والبحرية.