شهران وثلاثة عشر يوماً على إطلاق حملة «النظام من الإيمان» في الضاحية الجنوبية لبيروت، مدة يعتبرها البعض كافية لمعرفة مدى فعالية هذه الحملة، في حين يرى البعض الآخر أنه لا يزال من المبكر جداً الكلام عن نتائجها التي تحتاج على الأقل إلى ستة أشهر ليصح تقييمها. إلاّ أن الانطباع الذي ولّدته الضجة الإعلامية التي واكبت إطلاق الحملة، والرعاية السياسية الكبيرة التي حظيت بها وأبرزها تخصيص أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، ليلة كاملة من ليالي عشوراء من أجل الكلام عن أهمية حملة النظام من الإيمان وعن ضرورة الالتزام بالنظام العام والعمل على تطويره، إضافة إلى ندوات أهلية قامت بها «شُعب الأحياء»، خلّفت انطباعاً بأن تغييراً جذرياً يصعب تجاهله سيطرأ على المنطقة. انطباع لا يلبث أن يتلاشى على أرض الواقع، فالدليل الملموس والذي يكاد أن يكون وحيداً على حصول تغيير ما، ينحصر برجال شرطة ببزات مرقطة بالأبيض والرمادي ينتشرون على التقاطعات الرئيسة في الضاحية الجنوبية. هذا الوجود بات ملحوظاً، وعلى رغم أن رؤية دركي في شوارع هذه المنطقة لا تزال تحافظ على وقعها في النفوس، فيبدو وكأنه «الطارئ» الوحيد على الأحياء، خصوصاً مع انحسار اللوحات الإعلانية الممهورة بتوقيع «الحملة الأهلية لتطبيق النظام العام»... إلاّ أن هذا الموقف المتشائم يكتسب وقعه من كون ملاحظة تطور «النظام» في منطقة ذات كثافة سكانية كبيرة (حوالى 700 ألف نسمة يتوزعون على 28 كيلومتراً مربعاً، ويذكر أن تقدير ال700 ألف نسمة هو للبنانيين فقط من دون احتساب المصريين والسوريين والفلسطينيين والسودانيين وغيرهم من العمال الذين يوجدون بكثافة في المنطقة) تعتبر صعبة، لا سيما وأن أوصافاً مختلفة أطلقت على هذه الحملة تزامنت مع إعلانها في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009. ويبقى الوصف الأكثر وقعاً «عودة الدولة إلى الضاحية»، وصف تختلف القوى المسيطرة على الضاحية الجنوبية على تفسيره مع القوى المعارضة لها، وإن كانت الأولى ترى أن «الدولة أدركت ضرورة القيام بمهماتها في المنطقة»، فإن الفئة الثانية أصرت على أن «الأمور باتت أكبر من أن يستطيع «حزب الله» ضبطها فاستنجد بالدولة». وصف يرفضه العقيد في قوى الأمن الداخلي علي حسونة مستنداً إلى أن الأرقام بين 2007 و2009 في أعمال قطعات سرية الضاحية متقاربة إلى حد كبير، ويعتبره دليلاً على أن «الدولة كانت ولا تزال موجودة في الضاحية الجنوبية». لا تشكل التوصيفات واختلافها فارقاً لدى سكان الضاحية الجنوبية، الذين يعتبرون أنهم يعيشون في منطقة تحمل خصوصية معينة، وعليهم مساندة القوى المسؤولة عنهم في أي قرار تتخذه. فهم «أشرف الناس»، وعليهم أن يحافظوا على هذه الصورة وهم على «أهبة الاستعداد لذلك». الكلام عن منظمات أهلية في الضاحية الجنوبية، سراب يدحضه واقع أن هذه الجمعيات تابعة بغالبيتها ل «حزب الله» القوة الفاعلة الأولى في المنطقة، تليه بعد مسافة، باتت شاسعة، «حركة أمل» من خلال سيطرتها على بعض الأحياء، وإن كانت القوتان تعملان على تفعيل «فروعهما» ذات الطابع الأهلي على الأرض من أجل العمل على السيطرة على الوضع وإنجاح هذه الحملة. مجموعات من الشباب الحزبيين تتقصّى، تتحرى، تحدد الهدف، تتعامل معه في البدء ومن ثم تطلب تدخل القوى الأمنية في إطار التعاون الذي يلحظ خصوصية المنطقة. الحزبيون في الضاحية الجنوبية انقسموا «شُعباً»، كل شعبة تتولى عنواناً من عناوين الحملة الكثيرة، وإن كان التركيز على أربعة عناوين أساسية: الكهرباء، شلل الشوارع، تحرير الأرصفة والمخدرات. موضوع الكهرباء يبدو أقل ما يشغل بال هؤلاء فالمنطقة بأكملها تستهلك 170 ميغاوات من مجموع إنتاج شركة كهرباء لبنان الذي يبلغ 1500 ميغاوات، وبالتالي فإن الضاحية تستهلك ما يقارب 10 ونصفاً في المئة فقط من كهرباء لبنان. خمسة آلاف وحدة سكنية من أصل 120 ألفاً لم تكن تملك اشتراكاً شرعياً في الكهرباء، 1100 منها التحقت بالشركة خلال مهلة بدأت مع بدء حملة «النظام من الإيمان» وانتهت في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2009. أمّا الآخرون فيعرفون «أن الغطاء سيرفع عنهم، في حال طلبت أي جهة محاسبتهم». رفع الغطاء عن أية مخالفة، الشعار الأساسي الذي رافق الحملة، انطلاقاً من أن المخالفين يدعون بأنهم مدعومون أو تابعون ل «حزب الله» أو لحركة «أمل» من أجل تغطية مخالفاتهم. رفع غطاء يصفه البعض بال «استنسابي»، لا سيما في موضوع «تحرير الأرصفة»، موضوع لاقى أصداء حسنة في أوساط الشارع، وإجماع على أن الوضع تحسن بدرجات كبيرة. نجاح تعكره بعض الشوائب يعتبرها البعض لا تستأهل الذكر. إلاّ إن مشهد السبعيني باكياً على أوتوستراد هادي نصرالله، بعد أن قامت قوى الأمن بمواكبة من «حزب الله» بمداهمة «بسطته» وتكسيرها على مرأى من الجميع لا يزال عالقاً في ذهن سكان ذلك الشارع، فتسمع الحكاية من أكثر من شخص، ولا ينسى أي منهم ذكر «الاستراحة» الموازية لتلك «العربة» والتي لم تمس على رغم أنها تتمدد على الرصيف لأمتار. وعلى بعد أمتار قليلة منها لا تزال «الجزيرة» قابعة في وسط الرصيف، والسبب أن غطاء «حزب الله» لم يرفع عنها، فأصحابها على صلة وثيقة بأحد أبناء كبار المسؤولين في «الحزب». «الامتعاض» المتبادل من ممارسة القوتين الوحيدتين على أرض الضاحية الجنوبية، يفسح المجال أمام الوصول إلى حقائق «التقصير» المتوازي، والمفارقة أن آخر الأوتوستراد نفسه ولدى الوصول إلى تقاطع الكفاءات، الدليل «الصارخ» على نجاح حملة «النظام من الإيمان»، فبعد مشادات ومشكلات وصلت إلى حد التضارب، استطاعت قوى الأمن الداخلي بمؤازرة الحزبيين إزالة «استراحة آل المقداد»، دليل يفقد بريقه مع معرفة أن الإشكال لم ينته «على خير»، إلاّ بعد التعويض على صاحب الاستراحة بمبلغ تضاربت المعلومات حوله وإن كان 15 ألف دولار هو المبلغ الأكثر تكراراً، ولكن التعويض الأكبر يتمثل بإعطائه قطعة أرض (بمحاذاة قطعة أرض للنائب عباس هاشم) من قبل البلدية «معفية من الضرائب» لاستثمارها مدة عشر سنوات، وهو الأمر الذي نفاه رئيس بلدية المريجة سمير أبو خليل، مؤكداً أن أصحاب الاستراحة حصلوا على تعويض مادي من دون ذكر المبلغ. المصادر تؤكد أن المقداد مدعوم من حركة أمل، وتؤكد أن المخالفة أزيلت عن المشاع، ولكنها بقيت على جزء من الأرض ملك النائب هاشم، وإزالتها مربوطة بدعوى جزائية من النائب نفسه. يؤكد العقيد حسونة أن إزالة المخالفات لا تزال مستمرة، وعمد إلى إيعاز مباشر من أجل التأكد من موضوع «الجزيرة» وإن كان أصحابها يحملون رخصة. الرخص التي يأخذ بها رجال قوى الأمن كونها صادرة عن مراجع مختصة، يشكك فيها كثيرون يعتبرون أن «التسلح» برخصة، لا ينفي الشكوك حولها إذ يجمع الطرفان على أن الرخصة أسهل ما يمكن الحصول عليه، أو «تزويره». تعاون وثيق بين مطلقي الحملة وقوى الأمن، لا سيما في ما يتعلق بالمخدرات وشلل الشوارع، عنوانان يصعب فصلهما، وإن كان الأساس في موضوع شلل الشوارع، التغلغل في داخلها من أجل تفكيكها لا سيما إن لم يكن عليها أي «شبهة»، قبل أن «تقع في الخطأ». ومن الأساليب التي يعتمدها «حزب الله» في هذا المجال ترغيب هؤلاء في الانضمام إلى صفوف «سرايا الحزب»، معتبراً أن تنظيم هؤلاء الشبان في إطار معين وإن كانت مهماتهم «وهمية»، تفي بغرض إشعارهم بالمسؤولية، طريقة يستخدمها أيضاً «الحركيون» وإن كانت لا تندرج تحت اسم تنظيم أو فرقة. أرقام المخدرات مرعبة! تأخذ المخدرات الحيز الأكبر من الاهتمام، وقد يبدو الكلام عن الأرقام في هذا المجال خيالياً، فإذا كان الشبان في مناطق مختلفة من الضاحية يتكلمون عن أن عدد الموقوفين في التعاطي والترويج والاتجار بالمخدرات وصل إلى آلاف، يشير إحصاء يصفه من سرّبه ب «الشديد السرية» إلى أن نسبة كبيرة جداً من مجموع الشبان الذين تترواح أعمارهم بين 18 و21 سنة يتعاطون المخدرات، 0.9 من هؤلاء يتولون الترويج أيضاً. وإن كانت الأرقام لا تلحظ عدد الإناث بين هؤلاء، فتشير إلى أن من يتعاطون الحبوب المهدئة وأعمارهم بين 14 و18 سنة تفوق نسبتهم ال 30 في المئة. كذلك من يتعاطى حشيشة الكيف وتتراوح أعمارهم بين 14 و22 سنة. مكتب مكافحة المخدرات المركزي يؤكد توقيف 366 شخصاً منذ بدء الحملة، في مناطق مختلفة من الضاحية الجنوبية، يتمركز أكثرهم في حي السلم وبرج البراجنة. رفع «الغطاء»، والتعاون مع قوى الأمن، والملاحقات المتشددة بحق هؤلاء لا سيما في الأشهر الأخيرة، رفع أسعار الأدوية المخدرة في الضاحية الجنوبية. فقد ارتفع على سبيل المثال سعر قارورة ال cemo من 7000 ليرة لبنانية كحد أقصى إلى 25 ألف ليرة، كما أن الحصول على الحشيشة بات أغلى وأصعب وهو ما ينسحب على بقية أنواع المخدرات. ولكن الخطورة تكمن في أن الكلام عن تعاطي الحشيشة بات «سهلاً»، كما يصفه «مسؤول شعبة»، وأن ما من رادع لهم، إضافة إلى أن المشكلة الأكبر تكمن في عدم وجود مؤسسات رعاية من أجل علاج هؤلاء. ويضيف رافضاً الكشف عن اسمه: «لا رقابة ولا قانون صريحاً يلزم الصيدليات بعدم بيع هذه الأدوية من دون وصفة طبية. من جهة ثانية حتى قوى الأمن عاجزة، فتوقيف التاجر والمروج أمر سهل، أما المدمن فما من مكان لتوقيفه أو علاجه». آفة المخدرات لم توفر الحزبيين، وتشير الإحصاءات نفسها إلى أن نسبة مدمني المخدرات في الصفوف الحزبية تصل إلى اثنين في المئة، وهي تعتبر كبيرة في مجتمع ومؤسسات محافظة، لكن التعاطي مع هؤلاء يتم بسرية وقسوة شديدتين. التكتم ونتائجه تسريب المعلومات يجد فيه البعض ضرورة من أجل الإضاءة على خطورة الوضع، ويعتبر هؤلاء أن التكتم على الأمر هو ما أوصل الأمور إلى هذا الحد، ويراجع هؤلاء حساباتهم ويعترفون بالتقصير «كان همنا الأول البندقية والدفاع عن الأرض، لم نوليهم الاهتمام الكافي، وها هي القنبلة الموقوتة تكاد تنفجر، إذا لم نقل أنها انفجرت». الوضع المأزوم في الضاحية الجنوبية، لفت نظر المسؤولين وإن في شكل متأخر، ففضلاً عن تطرق السيد حسن نصرالله الى موضوع المخدرات في أكثر من مناسبة، يقوم رئيس مجلس النواب ورئيس حركة «أمل» نبيه بري بعقد اجتماعات أسبوعية مع مسؤولي الشُعب في «الحركة» من أجل توعيتهم وتثقيفهم بهدف النهوض بالواقع. ويؤكد المنسق العام للحملة حسين فضل الله، رضاه عمّا توصلت إليه الحملة حتى الآن، ويعتبر أن عدم ازدياد المخالفات في حد ذاته مؤشراً إيجابياً. ويرى أن القاعدة الذهبية تكمن في استمرار هذه الحملة. ويؤكد استمرار التعاون بين مختلف الجهات المعنية مشدداً على أن الأمر يتطلب جهداً كبيراً وتعاوناً بين المعنيين لافتاً إلى أن الإمكانات تقف في كثير من الأحيان عائقاً في وجه تطوير الأمور. لافتة خُطَّ عليها «أين أموالنا يا رئيس بلدية الحدث»، وأخرى «نطالب وزير الداخلية زياد بارود بوضع يده على ما يجرى في بلدية الحدث»، موقعتان من أهالي حي صفير، تطرح سؤالاً عن مدى جدية تعاون البلديات، لا سيما أن صلاحيات بلدية الحدث تمتد على مساحة تحوي 120 ألف نسمة. وهذه ملاحظات علنية رفض رئيس بلدية الحدث الدكتور انطوان كرم التعليق عليها وعلى الانتقادات الموجهة إليه من أهالي المنطقة مكتفياً بالقول: «أنا أقوم بواجباتي كاملة»، ليتولى أحد زواره الرد قائلاً: «الرجاء ذكر أن أهالي الحدث معترضون على هذه اليافطات ولا يجوز التوجه إلى رجل محترم بمثل هذا الكلام». صرخة اعتراض يفسرها المعنيون على أن «الدخول الشكلي للدولة إلى الضاحية الجنوبية لا يكفي»، وأن الأساس يكمن في اقتناع القاطنين بأن الدولة وأجهزتها هي أحد مصادر الحفاظ على سلامتهم وضمان حقوقهم. وقبل كل ذلك أن يشعر المواطن في الضاحية الجنوبية بأنه ينتمي الى الدولة التي عليها أن تتحمل واجباتها تجاهه بالمقدار ذاته الذي تطالبه فيه بالحقوق.