جدة - بخيت طالع الزهراني / تصوير: المحرر : كنت اشعر بفخر شديد عندما التقيت ذلكم الضيف الانجليزي وزوجته - مصادفة- خلال جولتي هذا الاسبوع في سوق العلوي، في قلب الحي التاريخي لمدينتنا الاثيرة جدة، كان الرجل وحرمه يلتقطان صوراً تذكارية لمظاهر الحياة التجارية التاريخية الاثرية في مكان من ذلك السوق قرب مسجد المعمار، وعندما قلت له هل اعجبتك جدة، اجاب بكل تأكيد.. والواقع ان الزائر للحي التاريخي أو لوسط البلد (في جدة) وخصوصاً في هذه الايام الشتوية التي يحلو فيها السير، بعيداً عن منغصات حرارة الجو والرطوبة، سيجد نفسه حتماً وسط عالم من الجمال وعبق التاريخ ومفردات الحياة الجداوية القديمة. وهذا بالضبط ما حاولت ان اجمع شيئاً من اطرافه الواسعة عبر هذه الجولة ل (البلاد) بالكلمة والصورة. كلما تجولت في الاحياء القديمة في جدة، اشعر كما لو ان ثمة تفاصيل لم تصلنا بعد عن حكاية جدة، هذه الحورية الرابضة على احضان البحر الاحمر منذ ثلاثة الاف سنة قبل ان تستوطنها قبيلة قضاعة، وقبل ان تبدأ تحولها التاريخي على يد الصحابي عثمان بن عفان رضي الله عنه. وبدأت جولتي هذه - أو لعلها تمحورت في سوق العلوي والدائرة الملاصقة له، بدءاً من نشوئه متعامداً مع شارع الذهب غرباً وحتى حي باب مكة شرقاً في تصاعد طبوغرافي، ولعل من مزايا هذا الشارع انه يضم على ضفتيه او قريباً منها عدداً من البيوتات التاريخية القديمة للجداويين، ويحتوي على متاجر شعبية تضم مختلف احتياجات الحياة المتنوعة من ملابس وحلويات ومعسكرات وبخور وملابس وعطورات وبعض البسطات الى غير ذلك. وبداية فقد وجدت نفسي امام بيت جداوي كان يتطاول نحو السماء، وعلى مقربة من بابه الرئيسي لوحة كتب عليها بيت نورولي، وعلى بابه كان يقف شاب في الثلاثينات من عمره، سألته عن عمر ذلك البناء الاثري الذي مازال يعج بالحياة، فقال انه يقارب ال150 عاماً، لقد كان بيتاً جميلاً حقاً وبدون شك فله قيمة تاريخية، وبالتأكيد فانه بالقرب منذلك البيت الجداوي كانت قصص وحكايات طويلة لاهل حارات (المظلوم واليمن والشام والعيدروس) وتأملت الواجهة الخارجية له، وإذ بها تضم تحف معمارية خشبية للرواشين والنوافذ في طلاء حديث يعكس اهتمام اهله به. وسألت الشاب الذي لقيته على باب ذلك البيت فافادني ان المكتب التجاري لعائلة نورولي هو في داخل البيت نفسه، مما يعني اشارة مهمة الى حفاوة الجداويين ببيوتهم وتراثهم. وغادرت المكان الى وسط الشارع (سوق العلوي) لأكون وجهاً لوجه امام مسجد المعمار التاريخي، وهو واحد من اشهر مساجد جدة التاريخية مع كل من (مسجد الشافعي، ومسجد عثمان بن عفان "الأبنوس" ومسجد الباشا ومسجد عكاش) وحينها كان صوت الحق يرتفع منادياً لصلاة الظهر، وخلال فراغي من اداء الصلاة بالمسجد تأملته فوجدت كل ركن منه ينطق بالتاريخ، ابوابه، سقفه الذي كان مبطناً من الداخل بالخشب المطلي باللون الاخضر، شكل محرابه التراثي، وبعد خروجي من بابه مباشرة التقيت السيد (خالد عبدون) صاحب محل تجاري قريب.. فقال: انا من ابناء حي المظلوم حيث يقوم مكان مسجد المعمار، ولي هنا خمسون عاما من الاقامة، وقال ان سبب اغلاق الدخول للمسجد من باب الجنوبي بدء دخوله قريباً حالة من الترميم، ثم قادني الى مكان الوضوء وقال: هنا كانت بئر يشرب منها الناس والوضوء. وخلال حديثنا مرّ من امامنا رجل ربما جاوز عمره ال70 او تزيد، فدعاه السيد عبدون قائلاً: تعال يا (درهم) ودرهم ذاك رأيته شيخاً ضئيلاً وقصيراً القامة، وعلى ملامحه متاعب وآثار الزمن، وعرفني به محدثي قائلاً: انه احد الاخوة السقائين، ممن كان الواحد منهم يعمل قبل 50 عاماً (سقا) وتحدثت معه قليلاً، فعرفت منه انه كان يمتهن عمل السقاية، وان الاجرة في الزمن البعيد كانت قرشين، ثم اربعة، ثم نصف ريال، فريال وريالين. وعدت هابطاً الى بطن سوق العلوي حيث المحلات التجارية تزين جانبيه، وتعج بمختلف المعروضات التي يحتاجها المتسوق، فهذا بداية محل انيق لبيع الحلويات والمكسرات وقد ابتعت منه شيئا منها، لكن البائع وقد كان شاباً وبعد ان عرف مهتني اخذني الى خارج المحل ليريني بعض الملحوظات، مثل عدم صيانة البلدية لفوانيس الاضاءة حيث قال ان عدداً منها تالفاً، اضافة الى بعض الاتربة والتكسيرات في اجزاء صغيرة من الشارع، الذي كانت تكسوه حلّة من بلاط خاص يصلح للمشاة. وفي مكان آخر رأيت محلاً لبيع السيوف والخناجر، وقال ان سعر السيوف يبدأ ب60 ريالاً الى 200 ريال ثم اضاف وهو يضحك، انها تصلح للعرضة ثم تناولت واحداً منها وسللته من غمده ولوحت به كما يفعل (العراضة) في ميدان العرضة الجنوبية او النجية، ثم الى الامام قليلاً كان ثمة اكثر من محل يعرض انواعاً من البخور الشعبي مثل اللبان والمعمول والدوسري.. الخ.. وكان من اللافت ان محلات بيع الملابس كانت تعرض في معظمها الملابس الشتوية مثل الاكوات والجاكيتات وفنايل الصوف والملابس الغليظة الصوفية ونحو ذلك، والى جانبها محلات بيع العطورات التي تتراوح معروضاتها بين زهيدة ومتوسطة السعر، ثم محلات بيع الاقشمة وقد رأيت من بينها انواعاً قديمة هي القطيفة المطعمة بلمعات وهو على اية حال مما يناسب فصل الشتاء ولكن هذا النوع من الاقمشة ربما لم يعد رائجاً لدى اوساط النساء الشابات. وفي مكان واضح ولافت لا يمكن ان يغيب عن العين برز بيت نصيف الاثري التاريخي، وهناك بقيت لدقائق في ساحته اتأمل ذلكم البناء المدهش، بما يشكله من قيمة تاريخية وتحفة معمارية تسجل لصالح ابناء جدة القدامى في فن المعمار، وكما هو معروف فقد اكتسب ذلك البيت اهميته من كونه قد نزل به الملك المؤسس جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز، وعلى ضيافة صاحبه الشيخ عمر أفندي نصيف عام 1925 ثم اهداه بعد ذلك للدولة التي قامت بترميمه، لكنني وجدته مغلقاً ربما لشيء من التحسينات بالداخل، وهو مما سيضيف له جمالاً فوق جمال تاريخه الذي يمتد الى العام 1289ه (تاريخ البدء في تشييده) وكان من اللافت ايضا رؤية الشجرة التي مازالت تعج بالخضرة امامه ولعلها اول شجرة في جدة مازالت شامخة بالحياة من 1947 وهي من فصيلة النيم. وكان السوق (سوق العلوي) يعج بالمتسوقين وخصوصاً في فترة اجازة منتصف العام، اناس اظن ان عدداً منهم جاء الى جدة هروباً من صقيع الشتاء في عدد من مناطق المملكة الباردة، اضافة الى عدد من السياح من بينهم اجانب واسيويون، كانوا اما يحملون الكاميرات ويلتقطون صوراً تذكارية، او انهم يتسوقون ويمتعون ابصارهم بجوانب حيّة من تاريخ سوق العلوي والحي التاريخي لمدينة جدة، هذه المدينة التي يصل عدد سكانها حالياً الى حوالى (3.5) مليون نسمة كثاني اكبر مدينة سعودية بعد العاصمة الرياض، والتي استطاعت ان تحفظ بعض تاريخها القديم، وان تتماهى مع العصر بكل مفرداته ومتغيراته الايجابية. وهكذا انتهت جولة (البلاد) في سوق العلوي ولم تنته بالتأكيد حكايات هذا السوق التاريخي، الذي يعتقد انه كان طريقاً سلكه الحجاج لسنوات كثيرة، بعد وصولهم الى ميناء، وعبر طرقات السوق الضيقة كانوا يسيرون صعودا الى منفذ باب مكة في طرفه الشرقي، وان كانت هذه الصورة قد انتهت الآن، الا ان هذا السوق العتيد مازال عابقاً بالتاريخ كما هو عابق برائحة البخور والعطورات والعطارين، الذين اشتهروا واشتهر هو بهم، فوق أنه مازال شاهداً على بيوتات تجارية كبيرة قامت ولازال الكثير منها شامخاً على جنباته.