أكّد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز نائب وزير الخارجية رئيس وفد المملكة لمنتدى المستقبل الثامن مجموعة دول الثماني والشرق الأوسط وشمال أفريقيا المنعقد في دولة الكويت أن سعي المملكة العربية السعودية المستمر للتطوير والتحديث وتمسكها بتقاليدها الإسلامية و العربية يعدان عاملين مهمين في تنمية المجتمع السعودي وتلبية تطلعات المواطنين في التحديث والانفتاح وفي نفس الوقت المحافظة على هوية المجتمع وثقافته وكيانه. جاء ذلك في كلمة المملكة العربية السعودية التي ألقاها سموه في المنتدى وفيما يلي نص الكلمة: "بسم الله الرحمن الرحيم... أصحاب السمو والمعالي والسعادة.. السيدات والسادة... في البداية يطيب لي أن اعبر عن شكر وتقدير المملكة العربية السعودية لدولة الكويت الشقيقة على استضافة الدورة الثامنة لمنتدى المستقبل بشراكة مع جمهورية فرنسا الصديقة، واغتنم هذه المناسبة أيضا للتنويه بما تحقق من إنجازات خلال الدورات السابقة والتي شكلت منعطفا مهما لتحقيق أهداف هذا المنتدى والمتمثلة في الحوار البناء وتبادل الرؤى والأفكار بين الدول الصناعية ودول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والعمل على تعزيز آليات الشراكة بين الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية ومؤسسات المجتمع المدني وصولا لتأطير أسس الحوار البناء والمثمر لتحقيق الاستقرار والإصلاحات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المنسجمة مع القيم الثقافية والسياسية في مجتمعاتنا. السيدات والسادة... يأتي لقاؤنا اليوم في ظروف استثنائية ودقيقة جراء ما تشهده منطقتنا والعالم من أحداث وتطورات متلاحقة. ففي الوقت الذي لا تزال تداعيات الأزمة المالية العالمية تلقي بظلالها على كثير من دول العالم وتحد من معدلات النمو وتفاقم من معدلات البطالة، فان المنطقة العربية تشهد تحولات تاريخية عميقة لم تشهد مثلها من قبل، الأمر الذي يتطلب منا جميعا وقفة مسؤولة للحفاظ على دول المنطقة ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية والسلم المدني، دون إغفال المطالب المشروعة لشعوب المنطقة. وإزاء هذه التطورات غير المسبوقة فإن المملكة العربية السعودية تشعر بالأسى والحزن العميقين لسقوط الكثير من الضحايا المدنيين. وقد دعت المملكة إلى تغليب صوت العقل والحكمة في معالجة الأزمات التي نشأت عن هذه التحولات، وتجنب العنف وإراقة المزيد من الدماء، واللجوء إلى تبني إصلاحات جادة بما يكفل حقوق وكرامة الإنسان العربي. لقد شهد هذا المنتدى خلال دوراته السابقة سجالات بين من كان يرى أهمية تسريع وتيرة الإصلاحات في دول المنطقة، ومن رأى بضرورة أن تنبع الإصلاحات من داخل مجتمعاتنا ووفقا لاحتياجات مواطنينا، وبما يحافظ على وحدة النسيج الوطني والاجتماعي لبلادنا. وفي هذا الإطار فإننا جميعا نتطلع أن ينطلق أي تطوير أو تحديث لمجتمعاتنا من قيمنا وتقاليدنا ومسؤوليتنا تجاه مصلحة دولنا ومواطنينا، وصيانة الحقوق. لذا، فإننا مطالبون بتبني نهج إصلاحي يتفق مع هذه الرؤية ويحقق التحديث المتوازن الذي لا يخل بالمجتمعات الشرق أوسطية أو يزعزع أمنها واستقرارها وينعكس سلبا على هياكلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إن سعي المملكة العربية السعودية المستمر للتطوير والتحديث والإصلاح، وتمسكها بتقاليدها العربية والإسلامية يعدان عاملين مهمين في تنمية المجتمع السعودي وتلبية تطلعات المواطنين في التحديث والانفتاح، وفي نفس الوقت المحافظة على هوية المجتمع وثقافته وكيانه. ولم تقف هذه الرؤية حجر عثرة أمام المسيرة التنموية للمملكة، بل أصبحت نموذجا فريدا في المواءمة بين متطلبات وعناصر التحديث والأخذ بمنجزات التقدم الإنساني بما يتفق مع القيم الإسلامية والأخلاقية المسؤولة تجاه مصلحة الوطن والإنسان السعودي. لقد حققت بلادي منجزات هائلة عبر مسيرتها التنموية الطويلة والممتدة منذ أن وحدَها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود - طيب الله ثراه - من خلال كفاح امتد لثلاثة عقود في مطلع القرن العشرين، لتنتهي بذلك معاناة الجزيرة العربية من الانقسامات والصراعات وفقدان الأمن والأمان وانعدام التنمية. واستمرت المنجزات عبر ملوك المملكة من أبناء الملك المؤسس وصولا لعهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي تميز بتسارع وتيرة الإصلاحات والتطوير في كافة المجالات بما يتناسب مع ما يتطلبه عالم اليوم. أيها الإخوة والأخوات.. لقد استشرف خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - مبكرا ضخامة التحديات التي تواجه كافة المجتمعات العربية دون استثناء، فدعاها في وثيقة العهد والوفاق التي تبنتها القمة العربية التي انعقدت في تونس عام 2004م، بكل وضوح وشفافية إلى أهمية تسريع وتيرة الإصلاح في الوطن العربي. وقد قرن خادم الحرمين الشريفين القول بالأفعال، فدشن أكبر مشروع إصلاحي بالمملكة شمل مجالات الحوار والتعليم والقضاء والإسكان ومكافحة البطالة والفساد وتوسيع صلاحيات مجلس الشورى وتشكيل مجالس المناطق وعقد دورتين للانتخابات البلدية بمشاركة من فعاليات مؤسسات المجتمع المدني، وصولا إلى القرارات التاريخية الأخيرة بمشاركة المرأة في انتخابات المجالس البلدية وفي عضويتها وعضوية مجلس الشورى. ولم تتوقف هذه الإصلاحات بمحاولة معالجة التحديات الراهنة والاحتياجات الحالية بل تجاورت ذلك إلى محاولة استشراف التحديات والاحتياجات المستقبلية على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فحماية حقوق الإنسان ونشر ثقافة السلام، ومبادرة الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات تعد عناصر أساسية في مكافحة الإرهاب والتطرف. وفي هذا الإطار، بادر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى إطلاق دعوته الصادقة والشاملة لتبني منهج الحوار على كافة الصعد، حيث انعقدت العديد من المؤتمرات الوطنية والإقليمية والعالمية، وتوجت بانعقاد الاجتماع رفيع المستوى للجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها (63) عام 2008م لتوفر أعلى دعم سياسي وجماهيري ممكن لجميع مبادرات الحوار والتفاهم ونشر ثقافة السلام والتسامح. وفي هذا السياق، وقعت المملكة مع كل من النمسا وأسبانيا اتفاقية لإنشاء مركز الملك عبدالله بن العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في فيينا، ونتطلع بأن يتمكن المركز من مباشرة نشاطاته وبرامجه في القريب العاجل إن شاء الله. كما أسهمت المملكة العربية السعودية بفعالية في الجهود الدولية والإقليمية لمكافحة آفة الإرهاب عبر مختلف الوسائل والسبل، حيث احتضنت الرياض عام 2005م مؤتمرا دوليا لمكافحة الإرهاب، وصدرت عنه العديد من التوصيات والنتائج، من أهمها الدعوة إلى إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب تحت مظلة الأممالمتحدة. وفي هذا الإطار وقعت المملكة هذا العام مع الأممالمتحدة اتفاقية إنشاء هذا المركز، والذي يهدف إلى تنسيق الجهود الدولية في هذا الشأن. والأمل كبير إن شاء الله أن يسهم هذا المركز في تعزيز دور الأممالمتحدة ولجانها المعنية بمكافحة الإرهاب، والتزمت المملكة في دعم ميزانية المركز بمبلغ عشرة ملايين دولار، وسوف لن تدخر المملكة جهدا في دعم جهود الأممالمتحدة في هذا المجال بما يسهم في ترسيخ واستتباب الأمن والاستقرار الدوليين. السيدات والسادة... لا يزال الصراع العربي الإسرائيلي يهيمن ويغطي على كل قضايا منطقة الشرق الأوسط، ويؤثر بصورة كبيرة على السلام والأمن الدوليين. فالموقف الإسرائيلي المتعنت والإصرار على التوسع في بناء المستوطنات يعيق استئناف عملية السلام، إذ ليس من المنطق والمقبول أن تكون هناك محادثات سلام في ظل الاستيلاء الإسرائيلي الممنهج والمستمر على الأراضي الفلسطينية وتغيير المعالم الدينية والأثرية للقدس، وتشريد الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم، واستمرار فرض الحصار والعقوبات عليهم، كل ذلك لا يساعد حقا على استمرار المفاوضات، رغم رغبة الجانب الفلسطيني الجادة في بدئها. إلا أن ما تقوم به إسرائيل من إجراءات أحادية تقوض هذه الرغبة وفرص التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية بما في ذلك إنشاء دولة فلسطين قابلة للحياة، حيث لا يمكن أن تستمر إسرائيل في تجاهل الشرعية الدولية والقانون الدولي... أليس يحق للشعب الفلسطيني أن يضمن مستقبلا آمنا أسوة ببقية شعوب العالم؟وعلى الصعيد الاقتصادي، فقد سعت حكومة بلادي ولا تزال إلى إيجاد برامج لتحقيق التنمية الاقتصادية لتشمل جميع قطاعات المجتمع السعودي. فخلال الخمس سنوات الماضية ركزت المملكة على وضع خطط للإنفاق على برامج استثمارية طموحة ومتعددة الجوانب تشمل تطوير التعليم وتأسيس الجامعات وابتعاث عشرات الألوف من الطلبة من الجنسين، وتحديث البنية التحتية للدولة، ورفع الطاقة الإنتاجية للنفط، وتخفيض المديونية العامة، وزيادة في الاحتياطي العام، وإنشاء المدن الاقتصادية في مختلف مناطق المملكة، ودعم قطاع الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة ورعاية المبادرين من شباب الأعمال ودعم مبادراتهم، بالإضافة إلى تقديم الدعم لبرامج تدريب الشباب بما يتفق مع متطلبات سوق العمل. لقد انتهجت المملكة سياسات اقتصادية واستثمارية محافظة، حيث أثبتت هذه السياسات فعاليتها لاحقاٍ حين وفرت للمملكة حماية جيدة من تعاظم التأثيرات السلبية للأزمة المالية العالمية التي ما تزال معظم دول العالم تعاني من تداعياتها اليوم. نحن لا نزعم أن المملكة العربية السعودية بمنأى عن التأثر بما يحيط بها من أزمات سياسية واقتصادية إقليميا وعالمياً، فهذا من ضروب الخيال. ونحن مدركون لضخامة التحديات التي تواجهنا خاصةً في مجالات البطالة والإسكان وتوسيع القاعدة الإنتاجية. لكن ما أود آن أختتم به هو إعادة التأكيد على عزمنا وإصرارنا على متابعة مسيرة الإصلاح والتحديث في إطار استمرار احتفائنا بمورثنا الحضاري.