تصوير – المحرر : عندما كنت في طريقي إلى سوق عكاظ قادما من جدة كان علي أن أقطع حوالي 200 كم مروراً بمكة المكرمة أولاً فطريق الكر ثم طريق عقبة الهدا بجبالها الشاهقة المنحدرة بشكل حاد وعندما ارتقيت أعالي تلك الجبال كانت تنتصب على الطريق لوحة تشير إلى اتجاه سوق عكاظ قبل أن أصل إلى قلب الطائف , ثم كان أمامي من تلك النقطة 43 كم حتى أصل إلى سوق عكاظ الواقع شمال شرقي الطائف وتحديداً شرق ضاحية الحوية , وخلال الطريق كان عدد من الأحياء الطرفية للطائف تبدو تعج بالمباني والمحال التجارية وحركة متوسطة للمرور , ثم ظللت أتتبع اللوحات الإرشادية التي تشير إلى موقع السوق حتى وجدت أنني في مكان خال من العمران تماماً ومن بعيد بدأت تلوح معالم السوق . إقبال كثيف أرتال هائلة من السيارات تملاْ الطريق ثم تزداد كثافة كلما اقتربنا من بوابة السوق الرئيسية , إذن هذا هو سوق عكاظ , وهنا تاريخ طويل من إرث العرب في هذا القفر الذي كان يعج بالصخب والحياة والناس شهراً كاملاً من كل عام حيث تضرب وفود القبائل موعداً لا تتأخر عنه أو تتقدم , والمكان كما رأيت شبيه بمخطط لحي جديد , شوارع طولية وعرضية مرصوفة بالإسفلت , أعمدة إضاءة , خيام كبيرة هنا وهناك من الشعر , والمكان بمجمله قد يصل إلى 2*1 كم تلك هي مساحة سوق عكاظ الآن كما رأيتها . اسم ومعنى وعلى البوابة الرئيسية للسوق كان ينتصب اسم السوق ( سوق عكاظ – ملتقى الحياة ) اسم وتفسير لهما دلالاتهما , غير أن ما سبَّب لي الامتعاض للوهلة الأولى أن أفراداً من منظمي المكان لم يسمحوا لنا بإيقاف سيارتنا في المكان الذي نريد , كانوا يشيرون لنا بالتقدم إلى مكان أبعد , والذين يلونهم يفعلون مثلهم , وهكذا حتى وجدت نفسي في آخر نقطة من السوق , كانوا يبررون ذلك بأنه لا مواقف شاغرة لسيارات إضافية بعد أن امتلأت المواقف ( كان ذلك يوم الخميس ويبدو أنه يوماً مزدحماً ) . لكن زوجتي التي كانت ترافقني أشارت إليَّ بأن نلتف حول السوق من الجهة الأخرى , حتى إذا ما وصلنا إلى نقطة أظنها منتصف السوق أوقفت سيارتي بعد أن أغرتني لوحة تشير إلى ( جادة عكاظ ) الاسم كان جاذباً حقيقة وقابل هوى في نفسي وقلت لعلَّه أهم ما في السوق . لوحة بانورامية وبعد أن وطأت قدماي سوق عكاظ لأول مرة في حياتي بدأ المكان أمامي لوحة بانورامية تُسافر بك إلى كزائر له إلى آلاف السنين , تاريخ موغل في القدم إلى ما قبل الميلاد , حضارة إنسان الجزيرة العربية , بشعرها وحكمتها ولوحاتها الأدبية , وفصاحتها وقوانينها وقضائها , وتجارتها وفخرها وخيامها وإبلها , ونُبلها ومكارم أخلاقها . ثم أفقت من حالة السرحان تلك على حقيقة الواقع , واقع جسارة الإنسان السعودي , في شخص أمير الكلمة والفكر والثقافة , الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز , الذي كان له الفضل بعد الله في إعادة إيقاد جذوة التاريخ , وبعث الحياة في رُكام ذلك السوق الباذخ , الذي استسلم للنوم ما يزيد على 1300 عام ., إنها جسارة الرجال صُنَّاع الحياة . محلات الحرف ولقيت نفسي فجأة أمام صف طويل بامتداد النظر لمحلات تجارية مخصصة للحرف اليدوية , رجال وسيدات يُديرون حركة البيع فيها , مشغولات وصناعات حرفية أبدعتها أيديهم وجاءوا بها ليعرضوها للبيع ( ملابس رجالية قليلة , ونسائية كثيرة , وملابس أطفال من وحي التراث – سيوف وخناجر – مصنوعات من سعف النخل – لوحات ومنمنانت , وأخرى مطعمة بالحجارة العادية – حجارة منحوت عليها آيات قرآنية وزخارف .... الخ ) . ووسط كل ذلك جمهور ضخم , رجال ونساء وأطفال , أسر بأكملها جاءت حتى بخادماتهم , وهواتف نقاله وكاميرات تلتقط صوراً تذكارية , وفرحة تعلو الوجوه بالحدث , جموع تزحف زحفاً وتشكل شلالاً بشرياً لم أكن أتوقعه إطلاقاً . ذروة المشهد غير أن ذروة المشهد وقمَّة البهجة والانتشاء هي ما وجدته في منتصف جادة عكاظ , ففي مكان متوسط يفصل الأسواق الحرفية المتقابلة بأرضيتها المرصوفة بطوب صغير الحجم أو مغطى بحصباء نظيفة ، وقد تم إعداد مكان ينخفض عنها قليلاً , ولا يمكن للجمهور أن ينزل إليه , وفي ذلك المكان المستطيل بطول يزيد على كيلو متر واحد وعرض حوالي 60 متراً , كانت تتجول قوافل من الإبل , ومجموعة من الناس ترتدي ملابس تراثية مطابقة لملابس إنسان القبائل العربية القديمة جداً , ملابس ملونة , وبعضها مزخرفة , وعمامات تلف الرأس , وملامح وجوه كما كان عليه الأجداد . هطول الشعر وفي حضرة هؤلاء ومن حناجرهم ومن بين شفاههم ينطلق الشعر العربي الفصيح غضا طرياً , يبدأ الواحد منهم يرتقي صخرة وتحيط به جموع الناس فيعرف بنفسه ( أنا زهير بن أبي سلمى , سألقي عليكم قصيدتي .. ثم يترنم بالقصيدة .... ) فيما كانت مُكبرات الصوت المنتشرة حول المكان تنقل للجمهور المحتشد وأنا منهم أبيات القصيدة , ونحن نتأمل صورة بانورامية تعيدنا آلاف السنين إلى الوراء , في محاكاة من أولئك أمامنا الذين تقمصوا دور فطاحلة شعراء سوق عكاظ في أيامه السالفة , وحول كل شاعر مستمعيه الذين تقمصوا هم الآخرون دور المستمعين في الأيام الخالية , وأيضا دور المحكمين لكل قصيدة تلقى على مسامعهم . إعجاب الجمهور كان الشعر العربي الفصيح القديم يهطل على مسمعنا نحن الجمهور , فيما كان الإعجاب طافراً من وجوه كل من كان حولي , هكذا أحسست , وعندما تنتهي القصيدة ينتقل أولئك الرجال من أمامنا إلى مكان آخر , فيعلو وسطهم أحدهم ليُعرِّف بنفسه أنه الشاعر فلان ويلقي قصيدته , ومع أولئك نتحرك مشياً نحن الجمهور , وكأننا فعلاً نعيش الماضي بلحمه وشحمه , أو كأننا نغوص في آلاف السنين من التاريخ البعيد , إلى أن وجدت نفسي أخرج من عباءة الحاضر وأدخل عمق التاريخ , عندما قلت لمن كان يقف أمام كاميراتي التي كنت التقط بها صوراً : ( هل تأذن لي يا أخا العرب أن التقط صورة ؟ ) .. فما كان منه وممن كان حوله إلا الاستجابة ضاحكين ! . تطواف على الحرف كل ذلك حدث في فترة مابين صلاتي العصر إلى المغرب , كانت لحظات قليلة فيما أحسب , لم تمكنني من الإحاطة بما في السوق , وبكل ما يحتوي من كنوز , وبالرغم من جماليات الشعر , أردت أن استثمر الوقت , فعدلت عن الشعر لهذا السبب إلى الطواف ببعض المحال التجارية , التي أقيمت من وحي حياة الماضي , في حجرات من الصوف أو الشعر , فها أنا أمام محل لسيدتين بملابسهما التراثية تصنعان الرغيف الشعبي بصورته وأدواته القديمة ( الحطب , الصاج , المنفاخ ) وابتعت رغيفاً طازجاً ثمنه خمسة ريالات وأكلته بالاشتراك مع من حولي من الجمهور . محلات مختلفة وهذه سيدة أخرى قالت : إنها عسيرية كان قد عرضت في محلها لوحات من وحي الماضي للبيوت القديمة , من الخشب الذي طعمته بحجارة صغيرة , وبدت منهمكة في صناعة إبداعات أخرى , وعلى مقربة منها عدد من علب البوية والريش , وسألتها إن كانت تعلمت الرسم في المدارس , فردت علي بأنها فقط هواية وموهبة نمَّتها بنفسها . وفي محل آخر للسيوف قال لي صاحبه وقد كان في عقده الخامس : إن كل تلك السيوف من صنع يده , وسألته عن أجودها , فأخرجه لي من غِمده , ثم ركزه في الأرض وثناه دون أن ينكسر في دلالة على جودته , وقال : إنه بخمس مئة ريال . وفي مكان رابع كانت إحدى السيدات من كبيرات السن تتسارع أناملها بسعف النخل , وهي تهم بالانتهاء من صناعة ما يُشبه طاسة صغيرة ولكن من سعف النخيل , فيما كان محلها يغص بالمصنوعات الشعبية التي صنعتها من السعف , ومن بينها ( المقاش ) أو المكانس الشعبية . نهاية الجولة وفي هذه الأثناء كان قد داهمني الوقت , وبدأت الشمس تغيب في نهاية الأفق مؤذنة برحيل نهار من نهارات سوق عكاظ , ليرتفع صوت الحق معلناً دخول وقت صلاة المغرب , وارتفاع الأذان من مكبرات الصوت , لأقرر نهاية جولتي التي أعتقد جازماً أنها لم تحط بكل ما في السوق من حياة وألق وجماليات ودهشة , ولكنها فيما أحسب كانت إطلالة صغيرة على سوق تاريخي باذخ , كاد أن يطويه الزمن لولا جسارة من بيده الأمر في قيادة بلادنا بعد توفيق الله , والمؤكد أن للأمير خالد الفيصل القدح المُعلى في ذلك . عكاظ التاريخ اشتهر سوق عكاظ عند العرب كأهم أسواق العرب وأشهرها على الإطلاق، كانت القبائل تجتمع في هذا السوق شهراً من كل سنة، يتناشدون الشعر ويفاخر بعضهم بعضاً، وقد أورد الخليل بن أحمد أن كلمة عكاظ في اللغة قوله: (وسُمّي به لأن العرب كانت تجتمع فيه كل سنة فيعكظ بعضهم بعضًا بالمفاخرة والتناشد : أي يُدعك ويُعرك، وفلان يعكظ خصمه بالخصومة : يمعكه). ولم يكن سوق عكاظ مكاناً ينشد فيه الشعر فحسب، بل كان أيضاً موسماً اجتماعاً قبائلياً له دوره السياسي والاجتماعي الكبير، فقد مثّل عكاظ لقبائل العرب منبراً إعلامياً يجتمع فيه شيوخ القبائل بعشائرهم، وتعقد فيه مواثيق وتنقض فيه أخرى، كما كان السوق مضماراً لسباقات الفروسية والبراز، وسوقاً تجارياً واسعاً تقصده قوافل التجار القادمين من الشام وفارس والروم واليمن، ومنتدى تُطلق فيه الألقاب على الشعراء والفرسان والقبائل وغير ذلك، ومنبراً خطابياً تقال فيه الخطب، وينصت له الناس، ومجلساً للحكمة تحفظ فيه الحكم وتسير بها الركبان ويتمثل بها الناس . ويعود تاريخ عكاظ إلى ثلاثة أو أربعة قرون قبل الميلاد وقد نشط في الفترة السابقة لظهور الإسلام، واستمر في عهد النبوة وصدر الإسلام أيام الراشدين وزمن بني أميه حتى سنة 129 ه، حيث ثار الخوارج ونهبوه ، وقد تأثر سوق عكاظ بتوسع الدول الإسلامية وانتقال مراكز الحضارة من الحجاز إلى دمشق ثم بغداد، حيث المدن الكبيرة، وبدأت الحياة الجديدة في الشام والعراق ومصر تجذب الناس إليها مع الاهتمام بالفتوحات مما أضعف الحاجة لسوق عكاظ ودوره التجاري خاصة. وقد اهتم الملك فيصل، رحمه الله، بموضوع سوق عكاظ وتكونت اللجان من الجغرافيين والمؤرخين والأدباء لتحديد موقعه، فتهيأ لعكاظ رجال مخلصون أرادوا أن يعود إلى مجده وسابق عهده، وقد كان ذلك عام 1428 ه بعد انقطاع استمر حوالي ألف وثلاثمائة سنة. وقد افتتحه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل خلال الثلاثة الأعوام الماضية نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا شك أن وجود صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل على رأس لجان سوق عكاظ يُشكل دافعاً قوياً للعاملين في هذا المشروع الذي ينتظره مستقبل باهر حين تكتمل عناصر المشروع وتبنى المدينة الثقافية السياحية لسوق عكاظ.