ربما لم يعرف التاريخ دولة كروسيا فُتنت بالتوسع الجغرافي والتمدد الجيوسياسي؛ فهذه الدولة غيرت ثوبها الجغرافي وبدلت حدودها عدة مرات خلال الألف سنة الماضية. في كل مرة كانت روسيا تتقدم إلى مناطق أكثر عمقا وتتماسَ مع شعوب وحضارات أكثر تنوعا فتضم داخل أسوارها الحديدية مئات الملل والنحل ومئات أخرى من الألسن واللغات. ولعله لهذا السبب يمكن استحضار روسيا في الخريطة الذهنية كمفهوم "مكاني" لا "قومي". بهذه العبارة افتتح د. عاطف معتمد عبد الحميد، الخبير المتخصص في قضايا الجغرافيا السياسية، كتابه: (استعادة روسيا مكانة القطب الدولي.. أزمة الفترة الانتقالية)، الصادر عن الدار العربية للعلوم ومركز الجزيرة للدراسات، والذي يحلل فيه المرحلة الراهنة التي تمر بها روسيا، كونها مرحلة انتقالية لا يمكن بأي حال الخروج منها بإجابات نهائية حول قدرة روسيا على العودة كقطب دولي بعد عقدين من الزمن، والتي أطلق عليها المؤلف "مرحلة تجميع الحجارة".ينطلق المؤلف من فرضية رئيسية مفادها أن ثوابت الجغرافيا السياسية والخبرة التاريخية تحمل في طياتها مؤشرات بأن تراجع الدور الروسي على المستوى الدولي لم يكن سوى مرحلة أفول مؤقت، حيث لم تفقد روسيا المقومات التي أسهمت في تفردها بمكانة دولية متميزة على مدار تاريخها؛ فهي كبرى دول العالم مساحةً وتحتل المرتبة الثامنة في قائمة أكبر دول العالم من حيث عدد السكان ولديها مواد طبيعية وبيئية شاسعة الانتشار، وتحتل مكانة دائمة في قائمة الدول الخمس الكبرى في إنتاج الخامات المعدنية، ناهيك عن إدراك المواطن الروسي لأهمية الدور العالمي لروسيا مدعوماً بالتفرد الروسي على المستوي الثقافي والتاريخي.ويرى المؤلف أنه لم يكن أحد الباحثين في العلاقات الدولية يتوقع أن تستعيد روسيا قدرا كبيرا من مكانتها الدولية في فترة لا تتجاوز العقدين من انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991؛ فالتغيرات الهيكلية في النظام الدولي التي صاحبت تفكك الاتحاد السوفيتي لم يكن من الممكن معها توقع عودة روسيا لممارسة دور محوري على المستوى الدولي في ظل التداعيات السياسية والاقتصادية التي قوضت من مكامن القوة الروسية، ومصاحبة ذلك بقيام القيادة الروسية بالتقرب من الدول الغربية وتبنى سياسات ليبرالية دفعت الدور الروسي للمزيد من الانكماش للداخل تحت وطأة تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنزعات الانفصالية التي اجتاحت الأقاليم الروسية.ولكن تمكنت روس يا في عهد الرئيس السابق فلاديمير بوتين من تجاوز عثراتها لتعود من جديد كقوة محورية في النظام الإقليمي والدولي، فمنذ وصول بوتين إلى سدة الرئاسة في يناير 2000 بدأ في تحديث القوات المسلحة الروسية التي تأثرت سلباً بانهيار الاتحاد السوفيتي وتطوير الصناعة العسكرية الروسية واستعادة سيطرة الدولة المتآكلة على قطاع الطاقة بعد السيطرة على شركة غاز بروم الروسية، بما ساهم في تدعيم سيطرة روسيا على عمليات تصدير الغاز للدول الأوروبية، وهو ما عزز نفوذها الجيوسياسي بالتبعية. ومن جديد باتت المناوئة الروسية لتمدد النفوذ الأمريكي في محيطها الحيوي أحد ثوابت النظام الدولي لاسيما بعد توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً وتبني إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لمشروع الدفاع الصاروخي. ألف عام من الصعود والهبوط وبالعودة للتاريخ يلاحظ أن روسيا عرفت فترات عديدة من الهبوط، لكنها سرعان ما كانت تعود بقوة مرة أخرى على صعيد الأحداث العالمية؛ فقد تعرف الأوروبيون والعرب والآسيويون على الروس كقوة محلية مؤلفة من مجموعة من القبائل ذات الصلة بعشائر الفرنجية ذات الأصل الإسكندنافي في نهاية الألف العاشر الميلادي، ووجدت بيزنطة في هذه القبائل حليفا ضروريا لضمان أمن الحركة البرية للتجارة في القارة الأوروبية، في وقت كان الأسطول الإسلامي يهيمن على الطرق الملاحية في حوض البحر المتوسط، وسرعان ما تم تعميد الأمير فلاديمير حاكما على إمارة "روسيا كييف" في سنة 988م بمباركة من بيزنطة المسيحية.وعلى مدى ثلاثة قرون تمكن احفاد فلاديمير من بسط نفوذهم في شرق أوروبا، متخذين من مدينة كييف (التي تعرف بأم المدائن في أوروبا) مركزا للتوسع والهيمنة، وأضحت إمارة روسيا قوة صاعدة بين القرنين العاشر والثالث عشر، وامتدت حدودها من شرق أوروبا ومشارف جبال الأورال، مرورا بتخوم البحر الأسود والقوقاز.وفي منتصف القرن ال 13 لم تصمد روسيا أمام الزحف المغولي وتوارى الروس كشعب مستقل وكدولة لها كيان سياسي لأكثر من قرنين من الزمان (1228 1462م)، وبعد غياب 234 سنة من خريطة العالم، تمكن أمير موسكو إيفان الثالث، او إيفان العظيم، (1462 1505م) من العودة بروسيا إلى خريطة القوى الإقليمية ويحقق الاستقلال عن المغول، وتبدأ معه مرحلة روسياالموسكوفية، حين حلت موسكو محل كييف كمركز لذلك القطب الصاعد. وبعد الاحتلال المغولي أدرك الروس معنى خريطة الإمبراطورية والتوسع الجغرافي؛ فكان القرن ال 16 بمثابة القرن الذهبي لجغرافية روسيا السياسية، وتمكن الأمراء الروس من صناعة أكبر خريطة عرفها تاريخ روسيا، من خلال انتهاج مبدأ "ابتلاع الأعداء" وغزو وضم الأقاليم المجاورة، حتى إذا جاء عام 1613 تقلد ميخائيل الأول حكم إمبراطورية لم تكن بخلد أي من الأمراء السابقين. وعبر ثلاثة قرون لاحقة (حتى عام 1917) صارت روسيا قوة عالمية بعد أن أشعلت صراعات إقليمية للحصول على منافذ البحار في كل اتجاه، فأشعلت حروب بحر البلطيق في مطلع القرن ال 18 لإقامة نافذة لها على أوروبا تمثلها مدينة سان يطرسبرج، وحاربت تركيا لاجل منفذ على البحر الأسود، ونجحت في تحويل بحر قزوين إلى بحيرة روسية، وأقامت ميناء فلاديفاستوك على المحيط الهادئ بعد احتلال أراض إلى الشرق من نهر آمور التي اقتطعتها من الصين في عام 1860.وهكذا صارت روسيا واحدة من الأقطاب الدولية الكبرى التي دخلت في جبهات صراع مختلفة اختتمت بهزيمة متوقعة في الحرب العالمية الأولى أفضت إلى نشوب الثورة البلشفية عام 1917، والتي معها عاشت روسيا خمس سنوات من الترنح، واستقلال فنلندا وليتوانيا واستونيا ولاتفيا وبولندا وأوكرانيا ومولدوفا عن الإمبراطورية الروسية، والتي عادت جميعها لروسيا (باستثناء فنلندا) تحت غطاء الشيوعية. نهضة اقتصادية رأسمالية لقد اتجهت غالبية التحليلات السياسية قبيل تولي الرئيس بوتين للسلطة في عام 2000 إلى أن مستقبل الدولة الروسية يتنازعه احتمالان لا ثالث لهما هما التفسخ والفوضى والفقر أو عودة الشيوعية.وحينما ترك بوتين الرئاسة في عام 2008 لم يتحقق أي من الاحتمالين، وعلى النقيض استمرت روسيا مركزية ومتماسكة، وتصاعدت معدلات النمو الاقتصادي، وانتهت الشيوعية كأيديولوجية وكقوة سياسية إلى غير رجعة. وقد استفاد بوتين على مدار سنوات حكمه من ارتفاع أسعار النفط من 20 دولاراً في عام 2000 إلى 70 دولاراً في فترة رئاسته الثانية، وهو ما وفر موارد مالية لدعم الصناعة وأبحاث الفضاء وتحسين مستويات المعيشة وتسديد الديون الخارجية البالغة 170 مليار دولار بشكل منتظم، وزيادة الاحتياطي النقدي الأجنبي من 10 مليار دولار في عام 1999 إلى 120 مليار دولار في عام 2007، ثم إلى 200 مليار دولار في عام 2008.تواكب ذلك مع معدلات للنمو الاقتصادي استمرت في مستوى يقارب 7% سنوياً لعشر سنوات متتالية قبل أن يتراجع تحت تأثير الأزمة المالية العالمية الراهنة إلى 5.6% بنهاية عام 2008، وزاد معدل نمو الاستثمار من 8.7% إلى 10%، وزاد حجم الإنتاج الصناعي ما نسبته 7% خلال فترة لا تتجاوز العامين، وارتبط ذلك بارتفاع حجم التبادل التجاري الخارجي لروسيا بنسبة 27% في عام 2006، وتصاعد حجم الصادرات الروسية من 354.4 مليار دولار في عام 2007 إلى حوالي 471.6 مليار دولار في عام 2008 لتشغل المرتبة التاسعة بين دول العالم من حيث حجم الصادرات، وتمكن الاقتصاد الروسي من تجاوز مرحلة الركود بما أسهم في تعزيز قدرة روسيا على تجاوز الركود الذي سيطر على اقتصادها الوطني لفترة طويلة.