من المحاور الملحة والتي يجب أن تأخذ حقها في طاحونة التغير الذي نأمله للأمة محور تغير العقلية الاستهلاكية عند الكثيرين من أبناء أمتنا. كما ويبقى إعادة تكوين العقلية المنتجة عند أبناء هذه الأمة هدفا كبيرا نجاهد جميعا من أجله، أو بالأحرى من أجل أن تبقى رؤوسنا طافية فوق الماء. فكل الدلائل تنبئ بنتائج كارثية إن سارت الأمة وهي تحمل لواء الفكر الاستهلاكي، أو تصر على إنتاج ما لا تحتاج، واستهلاك ما لا تنتج.فمنذ ظهور العولمة سنة 1990م وهي تهدف إلى نشر ثقافة الاستهلاك وتصدير ثقافة السوق، وشل إرادة الإنتاج، وقتل الإبداع في الدول الفقيرة. وعمدت إلى أن يتحقق ذلك جنبا إلى جنب مع إجبار هذه الشعوب على إنتاج ما لا تحتاج، واستهلاك ما لا تنتج. وجاء ذلك بالتوازي - أيضا - مع إغراق كل المجتمعات التي تغزوها العولمة بالقيم المادية، وتحطم القيم الأخلاقية التي تميزها. ويبقى الهدف الكبير من وراء كل ذلك محصورا في كلمة واحدة: تحقيق المزيد من فرص الكسب والثراء على حساب شعوب العالم الفقيرة .ومن أجل تهيئة عقول شعوب العالم لقبول الفكر الاستهلاكي بسرعة وبدون إهدار للوقت، عمد منظروا العولمة إلى السيطرة على وسائل الإعلام، وتطويرها بغية غزو عقول الشعوب، وخلق العقلية الاستهلاكية النهمة وتهيئتها لقبول ثقافة العولمة الاستهلاكية بسرعة وبدون إهدار للوقت.فهم يؤمنون بأن(التشابه في الأفكار يولّد حتمًا تماثلا في السلوك)، ولعل الكم الهائل من الإعلانات التجارية التي تصدعنا بها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في كل حين يؤكد لك هذا البعد. ويؤكد لك أن هذا أحد الأسباب التي ساهمت إلى حد كبير في خلق العقلية الاستهلاكية في مجتمعاتنا. والعقلية الاستهلاكية: هي تلك العقلية التي تقبل على الاستهلاك متجاوزة درجة إشباع الحاجات الطبيعية الضروريّة للعيش إلى إشباع الحاجات الثانوية الغير ضرورية والتي يمكن أن يستغني عنها أصحاب الإرادات القوية أو أولئك الذين يدركون إبعاد المخطط وخطورة المؤامرة. ولعل ذلك يعطينا تفسيرا لأسباب إغراق أسواقنا بجليل منتجات الغرب من: الهامبورجر، والبيتزا، والكولا، والأيس كريم، والفياجرا، وأفلام هوليود، وموسيقى الجاز و(الروك آند رول) ومنتجات الجينز وقبعات الكاوبوي، والمخدرات بكل أصنافها، وأفلام الجنس والعنف والإثارة والرزيلة بكل أنواعها، وكلها مما يغذي العقلية الاستهلاكية، ولعل ذلك أيضا يفسر أسباب إلحاحهم الدءوب على عقول الشعوب في تتابع عجيب. كان من نتائج هذا الإلحاح أن انتشرت العقلية الاستهلاكية النهمة عند أبناء أمتنا بدرجة مدببة، فلم يكن الأمر مستغربا حينما طالعتنا الأنباء بان المصريين ينفقون 186 مليون جنيه على رنات المحمول الخليعة، وأنهم ينفقون 20مليون دولار سنويا على الأيس كريم المستورد. وأن السعوديين ينفقون 5.6مليارات ريال على العطور ومستحضرات التجميل، و500 مليون ريال سنويا على البخور، و500 مليون دولار سنويا على لعب الأطفال. وأن الأردنيين ينفقون 494 مليون دولار سنويا على التدخين كما ينفقون نحو مليار دولار، بما يعادل (688) مليون دينار أردني على مكالمات الجوال سنويا. كما وينفقون 28.9 مليون دولار على المكسرات سنويا. وأن الكويتيين ينفقون 2مليار دينار كويتي على الذهب والمجوهرات. وأن المرأة الخليجية تنفق ما يفوق 7.1 مليار دولار على العطور ومستحضرات التجميل . وأن اليمنيين ينفقون 100 مليون دولار سنويا على التدخين. وما هذه النماذج التي ذكرناها- على سيبل المثال لا الحصر- إلا أحد الدلائل القوية على أن العقلية الاستهلاكية في مجتمعاتنا بدأت تبيض وتفقس. ودعني بك أعود إلي قبل ميلاد العولمة ب 1300سنة تقريبا وبالتحديد إلى الليلة الذي اشتري فيه أبو الأسود الدؤلي- القاضي المشهور، والتابعي المعروف، والشاعر المجيد- حصانا. في تلك الليلة استيقظ أبو الأسود على صوت غريب، ولما تحسس الأمر وسأل قالوا له: أنه صوت الحصان يقضم شعيره طوال الليل. فقال أبو الأسود الدؤلي مقولته الحكيمة: والله لا أترك في مالي من أنام وهو يمحقه ويتلفه. والله لا أترك في مالي إلا ما يزيده وينميه. وفي الصباح باع من فوره الحصان واشترى بقيمته أرضا للزراعة. إن حكمة أبي الأسود جعلته يرفض الرضوخ للعقلية الاستهلاكية منذ اليوم الأول، كان الرجل يؤمن أن من يسلم نفسه، وماله، وموارده للعقلية الاستهلاكية إنما سلم مصيره للفشل والهلاك. وهذا ما لم تقبله عقلية أبو الأسود وما لا تقبله عقليات كل الأسوياء على مر الزمان. إن حكمة الرجل جعلته يفضل اقتناء مصدر إنتاجي (أرضا للزراعة) بدلا من الحصان (كمصدر استهلاكي). لقد آن الأوان أن ندفع شعوبنا دفعا للبعد عن ثقافة الاستهلاك. وتثقيفهم بثقافة الإنتاج، البعد عن المظهرية، وحب الظهور، والرغبة في التميز والاختلاف، وحب التملك، والتباهي. إذ يجمع المختصون على أن العقلية الاستهلاكية عقلية سطحية بدائية، تميل إلى حب الظهور والتقليد بالتبعية، تربط السعادة دائما بالقدرة على اقتناء كل ما تشتهيه النفس. هدفها الأساسي في الحياة هو تحصيل الملذات مهما كانت الوسائل، وهذا يفتح المجال عند أصحاب العقليات الاستهلاكية إلى طلب المزيد. هذا المزيد يفتح المجال أمام مزيد آخر هو (مزيد المال). وفي رحلة البحث عنهذا (المزيد) غالبا ما تتولد الكوارث. إن استقراء المستقبل ينبئ بنتائج كارثية جمة إذا لم تتخل مجتمعاتنا عن العقلية الاستهلاكية، وتعود سريعا إلى (الفلسفة الدؤلية) فلسفة الإنتاج والبعد عن كل ما من شأنه إهدار ثرواتنا ومواردنا دون مردود ايجابي حقيقي. فلابد من العودة السريعة إلى إعداد الفرد المنتج، والبيت المنتج،والقرية المنتجة، والمجتمع المنتج، لابد من إنتاج ما نحتاج. لابد من العودة إلى المشروعات الإنتاجية الصغيرة، بدلا من التباهي بالعقلية الاستهلاكية المقيتة التي ليست سوى واحدة من الحراب التي رشقتها العولمة في قلب الأمة، وهي تعلم أنها الحربة التي ستصيب الأمة في مقتل. فهل نطلق هذه العقلية قبل فوات الأوان ، وقبل أن تغوص رؤوسنا في الماء.