ونحن نودع اليوم الطبيب الأديب والعالم المبدع د. مصطفى محمود، بعد رحلة طويلة من الإبداع الثري الغزير ملأ فيها الدنيا وشغل الناس، نقف أمام قبسات في حياته تومض للباحثين عن جوانب التميز في فكر الراحل، وأهمها الإبداع والجرأة والريادة. فمصطفى محمود إن انتمى إلى الأطباء الأدباء الذين مثلوا ظاهرة في مصر من محجوب ثابت وحتى علاء الأسواني ومرورًا بإبراهيم ناجي ويوسف إدريس وغيرهم، إلا أنه عاصر فترة تحولات فكرية وصراعات ثقافية كان يغلي بها العالم وكان لها عليه أكبر الأثر الذي عمقته بيئته الشخصية المحيطة البسيطة اقتصاديا والمعقدة اجتماعيا بالإضافة إلى ما داهمه من مرض صدري عضال وهو طبيب شاب في مقتبل عمره، وقد انعكست تداعيات هذا الواقع المرير في إبداعته القصصية والروائية والمسرحية التي كانت وليدة واقعه، مثل "شلة الأنس" و"عنبر نمرة 7" و"المستحيل" وغيرها. ولا نستغرب أن تؤدي تلك الظروف المحيطة إلى دفعه نحو أقصى اليسار الذي كانت راياته الحمر حينئذ تجتاح العالم وتبشر البسطاء والكادحين بالعدل والنماء، إلا أنه وبعد فترة من اعتمال الفكر واكتشاف الحقيقة؛ لم يعدم جرأة الاعتراف بما كان عليه من باطل فأصدر كتابه الشهير "رحلتي من الشك إلى الإيمان"، الذي كان منعطفًا فكريًا ليس في حياته فقط بل في مسيرة جيل. ولم يكتف بالاقتصار على إعادة نفسه الشاردة إلى الجادة؛ بل بادر لمخاطبة ومحاورة رفاق الأمس إبراءً لذمته أمام ربه ومصداقًا لقول الله عز وجل: "إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"، وقد أبرز ذلك في كتابه "حوار مع صديقي الملحد". أما برنامجه التلفزيوني الشهير "العلم والإيمان" فقد كان نقلة نوعية في العمل الدعوي، ولا يسع منصف إلا أن يعتبر هذا البرنامج انطلاقة لفكرة "الإعجاز العلمي في القرآن والسنة"، التي أصبح لها الآن بحمد الله مؤسسات ومطبوعات ومؤتمرات، ورغم ما للمحققين في هذا المجال من ملاحظات على طروحاته المبكرة رحمه الله، إلا أن هذه هي طبيعة الريادة، وهي بمثابة قص الشريط ووضع حجر الأساس، دون البناء والتشييد على أسس علمية يعرفها المهندسون المختصون. أما الريادة التي ينبغي أن تحظى باهتمام وإشادة فهي ريادته في مجال العمل الخيري، حيث أوقف كل ما درته عليه أعماله الأدبية والإعلامية، لمؤسسته الكبيرة الشهيرة في العمل الخيري، والتي وإن اهتمت بما ألفه الناس من مجالات العمل الخيري كبناء المساجد وكفالة الأيتام وإطعام الفقراء، ولكنها نقلت آفاق العمل الخيري إلى دوائر كانت مهملة في دوائر النسيان رغم أن التراث الإسلامي يذخر بالكثير منها، فألحق بمسجده في القاهرة واحدة من أكبر المشافي الخيرية التي تضم أرقى وأحدث التجهيزات التشخيصية والعلاجية، لتكون متاحة لمرضى الفقراء الذين أنهكهم الوقوف في طوابير المستشفيات الحكومية بعد عجزهم عن الالتحاق بالمشافي الخاصة. وهذا وإن كان أبرز الإنجازات فهناك غيره مثل موائد الرحمن ومجموعات التقوية للطلاب، ويكفيه فخرًا وقدرًا وذكرًا، أن مسجده بحي المهندسين أصبح علمًا على صلاة العيدين في مصر التي يؤم باحاته فيها مئات الآلاف الذين تسعى وسائل الإعلام العالمية إلى رصد هذه التظاهرة الإيمانية من خلال تجمعهم الفريد. تعرض مصطفى محمود في حياته للكثير من سهام النقد، منها المصيب ومنها ما لا ينهض للنيل من قدر الرجل وفكره وعطاءه، فإن كل بني آدم خطاء، ومصطفى محمود لم يكن معصومًا، نسأل الله بفضله أن يتقبله مرحومًا.