في أحد صباحات محاضرات مقرر الترجمة الذي كان يدرّسه عبدالوهاب المسيري، طلب منّا أن نخرج من القاعة حيث ستكون المحاضرة لهذا اليوم في مكان آخر. انطلق بنا من قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب نحو المكتبة المركزية التي تبعد مسافة خمس دقائق مشياً على الأقدام من القاعة. كان أستاذنا القدير يمشي ومعه أكثر من 30 طالباً في الممر الطويل الذي يربط بين الكليات في جامعة الملك سعود والتي وصفها في أحد كتبه بأنها جامعة عربية بمعنى الكلمة. اتجه بنا نحو الدور الثاني في المكتبة الضخمة التي يمكن الجزم بعدم وجود ما يماثلها في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، وربما في عصرنا الحالي. كانت المكتبة من القوة بحيث أنه يمكنك في ذلك الوقت أن تقرأ أرشيفاً متكاملاً من الصحف الورقية الصادرة باللغة الإنجليزية بدءاً من التايمز وانتهاء بجريدة الصن البريطانيتين. هذا فضلاً عن آلاف العناوين من الكتب والدوريات الأجنبية والعربية والمصادر المتعددة. كان أحد المتخصصين الباكستانيين في المكتبة ينتظرنا لبدء محاضرتنا هذا اليوم عن نظام ديوي المتّبع في المكتبات العالمية وكيفية البحث عن المواضيع والمعلومات في مكتبة ضخمة مثل مكتبة جامعة الملك سعود التي أصبحت الآن تحت تحمل اسم مكتبة الملك سلمان. ترك أستاذنا القدير المجال للمتخصص بالمكتبة أن يوضّح لنا أول الأمر طبيعة هذا النظام والإمكانات الضخمة التي تتمتع بها المكتبة وطرق البحث عن الكم الهائل من المعلومات والمصادر المتاحة في ذلك الوقت قبل أن يعرف العالم الثورة المعلوماتية التي نعيشها اليوم. لكن أستاذنا المسيري يتدخّل أحياناً ويتناوب الحديث مع هذا الخبير في شؤون المكتبات الذي يبدو أنه على علاقة وطيدة بالدكتور عبد الوهاب المسيري؛ إذ اتضح أن المسيري كان يقضي معظم وقته في هذه المكتبة الضخمة المزوّدة بكل ما يحتاجه من كتب حديثة ودوريات عالمية وصحف أجنبية، وقد صرّح بذلك في أحد كتبه وذكر أن جامعة الملك سعود قد خصصت له غرفة خاصة في المكتبة يحتفظ بها بكل ما يحتاجه من مصادر. ويمكن القول أيضاً أن مكتبة الملك سلمان في جامعة الملك سعود كانت مصدراً مهماً للمعلومات التي يحتاجها مفكر عبقري مثل عبد الوهاب المسيري حيث كان أستاذنا القدير في قمة عطائه الفكري أثناء وجوده في جامعة الملك سعود وكان يتمتع بصحة جيدة ولم يكن سرطان الدم قد عرفه بعد. وقد ذكر المسيري لاحقاً في أحد كتبه أن الأيام التي قضاها في السعودية هي عن حق من أسعد أيام حياته وأكثرها ثراءً من الناحية الفكرية. كانت المكتبة هي المكان الأثير عند عبد الوهاب المسيري ولهذا السبب أخذ طلاّبه لها وقدّم محاضرته فيها، لعلّهم يدركون أهميتها ولو بعد حين. لم يعرف الطلاب وقتها أن أستاذهم القدير كان يعمل على تأليف مشروعه الأسطوري الضخم الذي صدر لاحقاً بعد مغادرته لهم بسنوات.