أخيراً أسدل الستار على المرحلة الانتقالية التي شهدتها موريتانيا منذ انقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز في أغسطس 2008، حيث تم إجراء انتخابات رئاسية في البلاد في الثامن عشر من يوليو الجاري، أسفرت عن فوز مرشح حزب الاتحاد من أجل الجمهورية "محمد ولد عبد العزيز" المرشح المدني "العسكري سابقا" بها في الجولة الأولى بحصوله على 52% من مجموع الأصوات، في حين حصل أبرز منافسيه رئيس الجمعية الوطنية مسعود ولد بلخير على 16% فقط مقابل 13% لعميد المعارضة أحمد ولد داده. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا فاز ولد عبد العزيز من الجولة الأولى وما هي أهم الملفات "التحديات" التي يتعين على الرئيس الجديد مواجهتها؟. لماذا فاز الجنرال؟ ولنبدأ بالسؤال الأول عن أسباب فوز عبد العزيز بهذه الانتخابات بالرغم من افتقاره للخبرة السياسية، كما أن فترة توليه الحكم لم تدم سوى عشرة أشهر شهدت صراعا سياسيا شرسا بينه وبين المعارضة، ومن ثم لم يتمكن من تحقيق إنجازات ملموسة على الصعيد الشعبي خاصة في المجال الاقتصادي بما يجعله محل ثقة الشعب. ويمكن إرجاع نجاحه لعدة أسباب أبرزها ما يلي: 1 خطابه السياسي البسيط للفقراء من الشعب الموريتاني. فبالرغم من أن هذا الخطاب يفتقد إلى مقومات البرنامج السياسي الشامل لمرشح الرئاسة، لكن يبدو أنه لاقى صدى واسعا لدى فئة كبيرة من أبناء الشعب الذي يعيش 60% منه تحت خط الفقر. وقد ساعده على ذلك خروجه من أوساط هؤلاء، وفي المقابل فقد عمل على تشويه صورة خصومه من خلال اتهامهم بالثراء غير المشروع، وأنهم يعيشون في بروج عاجية ولا يشعرون بآلام الفقراء. وركز ولد عبد العزيز انتقاداته على أبرز خصومه، وهما مسعود ولد بلخير وأحمد ولد داده. ويبدو أنه نجح في تشويه الصورة إلى حد كبير. 2 سيطرته على الآلة الإعلامية والأمنية حتى فترة وجيزة، وهو ما ساهم في تهيئة الجو العام لانتخابه باعتباره الشخص الذي سيساهم في إخراج البلاد من أزمتها الحالية . ولعل ولد عبد العزيز كان من الذكاء السياسي عندما تخلى وفق اتفاق داكار عن حقيبتي الداخلية والإعلام للمعارضة قبل الانتخابات بوقت قليل بعدما قام بتهيئة الأجواء لصالحه، وبحيث أفسد على المعارضة أي محاولة للتشكيك بالانتخابات خاصة وأنها مشاركة بمقدار النصف في اللجنة المستقلة للإشراف على الانتخابات؛ وهو ما دفع المعارضة إلى القول بأنها وإن كانت تسيطر على حقيبة الداخلية، إلا أنها لا تسيطر على إدارة الداخلية، أي "موظفو الداخلية الذي ينتمي بعضهم لولد عبد العزيز". 3 تشتت المعارضة وعدم خوضها الانتخابات بمرشح واحد، فضلا عن تذبذب بعض أقطابها مثل ولد داده فيما يتعلق بموقفه من انقلاب ولد عبد العزيز. فبعدما كان من أبرز مؤيديه، تحول في الفترة الأخيرة إلى أبرز منتقديه، بل إنه أعلن ندمه عن عدم إدانته للانقلاب من أول الأمر. وهذا التذبذب جعل البعض يتشكك في موقف المعارضة، وكيف أنها لا تخرج عن كونها باحثة هي الأخرى عن كرسي السلطة وتحقيق أهدافها فقط. 4 تأييد المؤسسة العسكرية لولد عبد العزيز، وهذه نقطة هامة ومفصلية في هذا الشأن، حيث باتت هناك قناعة لدى النخبة السياسية الموريتانية وكذلك الرأي العام على أن أي رئيس للبلاد لا بد أن يكون من المؤسسة العسكرية أو يحظى بمباركتها في بلد يغلب على تاريخه السياسي الانقلابات العسكرية.. حدث هذا عام 2005 من خلال انقلاب ولد فال، ثم جاء حاكم مدني مستقل هو سيدي ولد الشيخ عبد الله في انتخابات 2007 بتأييد ومباركة ولد فال، ثم أطاح العسكر به بزعم ضعف إدارته.. وهكذا بات تأييد العسكر شرطا هاما وضروريا لنجاح أي مرشح أو استمراره في الحكم. ونظرا لأن المجلس العسكري الذي شكله عبد العزيز بعد انقلابه لا يزال قائما، فضلا عما تردد عن قيام العسكر بتنظيم إجراءات الانتخابات في يوم التصويت، وما تردد كذلك من قيامهم بإرهاب بعض الناخبين المنتمين للمعارضة... كل هذا جعل الكفة تميل لولد عبد العزيز. 5 موقفه الرافض لاستمرار التطبيع مع إسرائيل، وهي نقطة هامة في جذب أصوات الناخبين على اعتبار أن هناك قطاعا عريضا منهم يعارض فكرة التطبيع. لماذا خسرت المعارضة؟ وإذا انتقلنا إلى السؤال الثاني الخاص بالمعارضة، فسنجد أنها خسرت لمجموعة من الأسباب لعل أبرزها: عدم اتفاقها على مرشح واحد للرئاسة على الأقل بالنسبة لجبهة الدفاع عن الديمقراطية، والتي تتشكل من بعض الأحزاب التي لها ثقل سياسي في البلاد مثل حزب "التحالف الشعبي التقدمي"، الذي يقوده رئيس البرلمان مسعود ولد بلخير، وحزب "اتحاد قوى التقدم" بزعامه ولد مولود، الذي يقوده يساريون عُرفوا في الأوساط السياسية المحلية بحنكتهم وقدرتهم الفائقة على لعب مختلف الأوراق، إضافة إلى حزب "تواصل" الإسلامي بزعامة جميل ولد منصور.. هذا فضلا عن ولد داده الذي عارض الانقلاب لكنه لم ينضم للجبهة.. ولذا ظهرت أول علامات فشل المعارضة في الاستحقاقات الرئاسية بعد التوصل لاتفاق داكار، حيث أعلن كل طرف من الأطراف الثلاثة الرئيسية المكونة للجبهة عن الترشح في هذه الانتخابات، فصار لدينا ولد بلخير، وولد مولود، وولد منصور، إضافة إلى ولد داده... هذا علما بأن خبرة الانتخابات السابقة 2007 كان يفترض أن تكون ماثلة في أذهان الجميع؛ فولد بلخير لم يحصل فيها سوى على 9.8% من الأصوات، وحصل ولد مولود على 4.8%، أما ولد منصور فهو أول مرة يخوض هذه الانتخابات لأنه لم يكن مسموحا بتشكيل حزب إسلامي قبلها. وربما يختلف الأمر بعض الشيء بالنسبة لولد داده بالنظر إلى تاريخه السياسي الطويل منذ منافسته لولد الطايع في التسعينات، وحصوله على المركز الثاني في الجولة الأولى لانتخابات 2007، ثم تمكنه في الجولة الثانية من الحصول على 47.1%.. ولهذا كان من الأفضل للمعارضة الاتفاق على مرشح رئاسي واحد خاصة في ظل ضيق الفترة الزمنية ما بين التوصل لاتفاق داكار وإجراء الانتخابات (أقل من 45 يوما). كما يلاحظ أن قوى المعارضة افتقدت التنسيق مرة ثانية في حالة تمكن أحد مرشحيها من خوض جولة الإعادة في مواجهة ولد عبد العزيز. ففي حين كان هناك اتفاق بين حزبي ولد بلخير وولد داده على دعم بعضهما إذا وصل أحدهما للإعادة، نجد أن باقي قوى المعارضة لم تحدد موقفها من هذا التنسيق على الرغم من أنه كان من الأفضل أن يتم هذا التنسيق منذ الجولة الأولى، لكن عدم حدوث ذلك يكشف عن مدى التباعد بين أطراف المعارضة؛ وهو ما صب في صالح ولد عبد العزيز في نهاية الأمر. ووضح هذا التباعد مرة أخرى فيما يتعلق بالموقف من نتائج الانتخابات، ففي حين اعترض عليها كل من ولد بلخير وولد داده وولد مولود (أي أقطاب المعارضة الأساسية)، نجد أن ولد منصور أيدها على اعتبار أن التجاوزات بها لم ترق إلى درجة التشكيك فيها، وهو نفس ما ذهب إليه مرشحان آخران للرئاسة هما كان حاميدو بابا، الحاصل على 1.49%، وصالح ولد حننا، الحاصل على 1.31%. خسارة متوقعة للمتشددين وبشأن المتشددين وموقعهم في هذه الانتخابات، يلاحظ أن خسارتهم كانت متوقعة إلى حد كبير بالنظر إلى حداثة تشكيل حزب تواصل، تماما كما كان متوقعا حصولهم على نسبة ضئيلة في البرلمان في انتخابات 2007 (5 مقاعد في الجمعية الوطنية من إجمالي 95 مقعدا، أي ما يعادل 5.2% فقط)، وهو ما فسروه في حينه بأن خوضهم انتخابات البرلمان ليس بهدف السيطرة عليه، وإنما لكي يكون لهم كفة الترجيح بين الفرقاء، كما أن تركيزهم الأساسي انصب على انتخابات البلديات على اعتبار أنها بوابة الوصول للبرلمان على غرار ما حدث في الجزائر. ولقد استهدف خوض ولد منصور هذه الانتخابات عدة أمور لعل أبرزها: استغلال مناخ الانفتاح الديمقراطي الذي يسمح للمرة الأولى بوجود حزب إسلامي، فضلا عن وجود مرشح إسلامي للرئاسة، ثم التواصل مع جموع الشعب ومعرفة مدى الثقل الشعبي للحزب، والوقوف على أبرز الإيجابيات والسلبيات بحيث تكون فرصة المشاركة في الانتخابات القادمة (2014) أفضل خاصة في ظل خروج بعض أقطاب المعارضة من المضمار لبلوغهم الخامسة والسبعين "الحد الأقصى للترشيح وفق الدستور"، مثل ولد بلخير. تحديات ماثلة وبوجه عام اكتسب ولد عبد العزيز زخما قويا وشرعية كبيرة تمثلت في نتيجة الانتخابات من ناحية، واعتراف بعض قوى المعارضة بها من ناحية ثانية، علاوة على اعتراف المنظمات المشرفة عليها بالنتائج (الاتحاد الإفريقي، والجامعة العربية، والمنظمة الفرانكفونية، وتجمع الساحل والصحراء، والاتحاد المغربي، والاتحاد الأوربي). ومعنى هذا أن استمرار حدوث الاضطرابات والقلاقل في البلاد غير وارد إلى حد كبير خاصة في ظل سيطرة ولد عبد العزيز على المؤسسة العسكرية. بيد أن ذلك لا يعني أن الطريق مفروش بالورود أمام الرئيس الجديد، إذ أن هناك مجموعة من التحديات "الاستحقاقات" يتعين عليه مواجهتها، وأبرزها ما يلي: 1 محاولة استيعاب المعارضة وعدم التصعيد معها، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال مشاركة بعض رموزها في الحكومة الجديدة، وتجنب لغة التهديد والوعيد؛ فالاستيعاب أفضل من الاستئصال. ولعل اتباع هذا الأسلوب سيضع المعارضة في مأزق حال نزولها الشارع، على اعتبار أن هناك طرقا قانونية للاعتراض على نتيجة الانتخابات. 2 الأوضاع الاقتصادية السيئة في البلاد، حيث تحتل موريتانيا، وهي بلد فقير وصحراوي إلى حد كبير، المركز 137 من بين 177 دولة في تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة، كما هناك تردٍ للأوضاع الغذائية في البلاد بصورة كبيرة خاصة مع ارتفاع الأسعار العالمية. ووفقاً لتقرير لمنظمة اليونيسيف، فإن 12% من الشعب أصيب بسوء تغذية خلال عام 2008، كما أن هناك توقعات بعدم تمكن 15% من الأسر من توفير الغذاء اللازمة. يذكر أيضا أن البلاد شهدت في نوفمبر 2007 ما عرف باسم "ثورة الجياع" حيث عمت المظاهرات العديد من المدن احتجاجا على الارتفاع الرهيب في أسعار السلع الغذائية. 3 معالجة الأوضاع الاجتماعية المتردية في ظل وجود العديد من الفئات المهمشة مثل الحراطين (الأرقاء المحررون) والزنوج السود الذين يشكلون 18% من سكان البلاد. وبالرغم من أن حكومة الرئيس المخلوع سيدي ولد الشيخ عبد الله اتخذت بعض الإجراءات التصحيحية في هذا الشأن مثل إصدار قانون مكافحة الاستعباد والرق في أغسطس 2007، إلا أن هذا القانون وجد مقاومة عنيفة من قبل القبائل الموريتانية. 4 مواجهة الفساد سيما داخل النخبة السياسية التي يجب البدء بها، على اعتبار أن هذه الخطوة ستساهم في زيادة مصداقية ولد عبد العزيز من ناحية، واستفادة الشعب المطحون من خيراته المنهوبة من ناحية ثانية. 5 الاستمرار في موقفه بشأن رفض عودة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مع السعي في المقابل لتوطيد العلاقات مع الدول العربية، خاصة وأن علاقات موريتانيا العربية تشهد فتورا ملحوظا في الآونة الأخيرة.