تعود بعض الناس على ضراوة النفس، وحدة الطبع، وآية ذلك قعقعة الألفاظ التي لا تبدو قوتها في الحجة والبرهان، بل في الشتم والسب. واللعانون لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، كما في الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة». أخرجه مسلم. وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن المؤمن ليس باللعان ولا الطعان ولا الفاحش ولا البذيء». أخرجه الترمذي وأحمد وغيرهما، وقال الحاكم في مستدركه: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ومن أحب النبي صلى الله عليه وسلم ورجا أن يحشر معه فعليه الاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم، وحفظ لسانه إلا من خير. ولذا كان من توجيهه صلى الله عليه وسلم لكل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول خيرا أو يصمت «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». أخرجه البخاري ومسلم، فرحم الله امرءا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم. وليس ثمة حرج أن يختلف الناس أو يتنازعوا خاصة في مثل هذه الأحداث الجسام، والمصائب العظام، والآلام الدامية التي تعيش الأمة وطأتها في غير ما موقع، لكن آلية معالجة الاختلاف هي بالحجة الناصعة والقول اللين، والبيان الإنساني المعبر عن صفاء النفس ورجاحة العقل ونبل الطبيعة. وليس يخفى أن الأمة تعيش أزمات خانقة، وكأنها سفينة في لج البحر تتقاذفها الرياح يمنة ويسرة، ويوشك أهلها على الغرق، تتعالى الأصوات وتختلط.. فيها الصوت الرحيم المشفق، وفيها الصوت الهادئ، وفيها الصوت الغاضب المزمجر، وفيها الصوت الذي يوزع اللعنات يمنة ويسرة ويستثني نفسه، وكيف يلعن نفسه وهو المنقذ، والمصلح، والأمين، والغيور، والقائم على أمر الناس، حين نكل الآخرون ونكصوا وتراجعوا وضعفوا، واشتروا الدنيا وباعوا الآخرة، وبئسما لامرئ أن يظن بنفسه الخير وبالآخرين الشر، وإخوانك جزء منك، فظن بهم كما تظن بنفسك، يقول تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، وقال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]. الشتم الإلكتروني والفضائي جد في هذا العصر (الشتم الإلكتروني) عبر مواقع الإنترنت، شتيمة مجانية بغير حساب، باسم صريح مكشوف، وتلك لعمر الله هي المجاهرة بالخطيئة, «كل أمتي معافى إلا المجاهرين». رواه البخاري ومسلم. أو شتيمة مقنعة تختفي وراء اسم أو لقب وتتحلل من كل القيود والتبعات.. ولأن القول المعتدل الموزون قد لا يستفز ولا يدعو للتوقف، فصاحب الشتيمة الإلكترونية ربما أغراه وقوف الناس عنده بين مؤيد ومعارض، وخيل له أنه يصنع التاريخ! وثمة نمط آخر جديد هو (الشتم الفضائي) من خلال اتصالات هاتفية مجهولة تتبجح برديء القول وساقطه، وتعد هذا جرأة وشجاعة، وهي حقا جرأة.. جرأة اللص الذي يقتحم البيوت، أو المعتدي الذي يهتك الأعراض دون تردد.. إنها الجرأة على تقحم الهلكات، وفي الحديث الصحيح: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها». أخرجه البخاري ومسلم. وهذه المواقف لا تعبر عن مبدأ أصلا، بل هي أصدق دليل على غياب المبادئ، وضياع القيم، وسيطرة الوحشية والغضب الأعمى، والانتقام الشخصي على صاحبها، وهيهات أن تكون نصرة لحق أو تعزيزا لدين. ومما جد من طريف الشتم السب على حسابك! أحد الأصدقاء أرسل إليه شخص ما رسالة جوال يطلب فيها الاتصال العاجل والضروري، واتصل من خارج البلد، وأمضى نحو ساعة مع الذي طلب الاتصال وكانت المكالمة شتيمة، فكنت أضحك منه، وأقول له: شتمك على حساب فاتورتك! أصحاب الصراط السوي إن الذين آلوا على أنفسهم أن يسيروا في الطريق المستقيم محتاجون إلى: 1. الإعراض، فهو مبدأ قرآني {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]. وقد كان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. وما أحسن الاقتداء بمريم عليها السلام {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم:26]. 2. المدافعة بالتي هي أحسن؛ بالدعاء، والاستغفار، وطيب القول، ومجازاة السيئة بالحسنة، والنصوص في هذا المقام عظيمة كثيرة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96]، وقال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وقال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص:54]. وفي ثلاثة مواضع في القرآن ذكر الله تعالى الاستعاذة من شياطين الجن، ومصانعة شياطين الإنس. 3. الحفاظ على النفس وسكينتها؛ لئلا تضطرب أو تتكدر، فأمامك مشوار الحياة الطويل، وأنت بحاجة إلى راحة وهدوء، كذلك الذي وعد الله نبيه، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4]، ويقول تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40]، وقال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، ويقول سبحانه: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} {النحل:127]. عش حياتك العائلية برضا وطمأنينة، وعش برنامجك إن كان تجارة أو صناعة أو دعوة أو إدارة أو ما شاء الله لك من الضرب في الأرض هادئا مطمئنا مبتسما صابرا.. وإياك والتردد أو الالتفات أو الإصغاء لأصوات التثبيط والاسترخاء. 4. لا تشتغل بالردود؛ فهي مضيعة، دعها لغيرك، ليس كل ما تقوله أنت صحيح، ولا كل ما يقوله الآخرون خطأ، لكن دع عنك المهاترات والتقاذف.. قال لي أحدهم يوما: لماذا لا ترد على فلان الذي تناولك في الجريدة؟ فقلت له أنا سائر في طريقي وقد اخترت ألا أتشاغل بهذا.. لكن هبني رددت عليه ثم رد هو علي فهل سأقطع أعمالي البناءة وأتفرغ لمعركة الردود، أم سأنقطع وأتوقف فيبدو وكأنه غلبني وخصمني؟! ثم حدثني ماذا بقي لدينا الآن من آثار المعارك الطويلة التي جرت قبل ثلاثين أو أربعين سنة فضلا عن ثلاثمائة أو أربعمائة سنة؟ لماذا لا أصرف جهدي وهو قليل لما هو أجدى وأنقى وأبقى وأتقى؟ لدينا معركة كبرى مع عدو غاشم مستخف لا يعبأ بنا طرفة عين، ويقتلنا بدم بارد، ويستبيح أرضنا، وينتهك عرضنا، فأي شأن لنا في معارك فرعية؟! هل نحن ممن أدمنوا العراك فلا يجدون لذة الحياة وشعور النصر والغلبة إلا بهذا؟! 5. لا يجرمنك الشنآن والاستخفاف أن ترد حقا، أو تقول باطلا، أو تصر على خطأ فاجعل المراجعة والتصحيح دأبك ولو بعد زمن؛ فالكثيرون قد ينتقدون ظاهر القول ولا يدركون أبعاده، لكن قد تجد من يبصرك بمعنى غاب عنك أو يعينك على تحقيق الاعتدال والتوازن والتوسط في نظرتك للأمور، وجزى الله الأعداء عنا كل خير؛ فلولاهم ما نزلنا منازل القرب، ولا حللنا حظائر القدس كما كان يقول بعض السلف.. 6. تذكر أن لك ذنوبا أمثال الجبال من نظرة حرام أو كلمة أو غفلة أو ما شابه، وأن الله تعالى بلطفه يختار لك الأسهل والأيسر من أذى الدنيا؛ ليكون كفارة لخطيئة أو رفعة لدرجة، أو بلوغا لمنزلة ما كنت تبلغها بعملك الصالح، فقيض الله لك من هم في الظاهر مناوئون وفي الحقيقة مساعدون، ومنحك الأجر والثواب.. وليس بالضرورة أن يكون الأجر من حسناتهم؛ ففضل الله عظيم، وقد يمنح أحدهم فضلا بصدقه ولو كان غالطا، ويمنحك أجرا بصبرك، فلا تجعل رفعتك على حساب الآخرين.. وأكثر من الاستغفار؛ فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، والله مع الصابرين. وأخيرا.. فإن الشيء اللافت أنه مع تفاقم الأزمات كما يحدث في فلسطين والعراق ولبنان ترتفع وتيرة الغضب، ويحتدم لدى أقوام لا يجدون وسيلة إلا الشتم.. ويا ليتهم يشتمون العدو إذن لهان الخطب.. ومن قبل قال الأعرابي: أوسعتهم شتما وأودوا بالإبل.. لكنهم يشتمون بني جلدتهم، ومن يخالفونهم، ومن يقابلونهم، ويشتمون أهاليهم وأسرهم وأزواجهم.. وعذرهم أنهم مقهورون! نعم مقهورون!! يقهرك العدو فتجعل غضبك في الصديق والحبيب والأخ والقريب!! وقد نعتبر هذا جزءا من التفاعل مع الأزمة، وكأن من ينهانا عن الشتيمة ينهانا عن نصرة المظلومين!! بينما نحن صنعنا بشتيمتنا مظلومين آخرين وقعوا ضحية عدواننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.