الحمد لله القائل: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، والقائل سبحانه: (كل نفسٍ ذائقة الموت)، لقد غيب الموت الذي لا مفر منه أحد فرسان ورجالات الوطن المشهود لهم بالاستقامة والإخلاص والتفاني في خدمة دينه ومليكه ووطنه، إنه المغفور له -إن شاء الله- معالي الوزير المستشار بالديوان الملكي الاستاذ/ صالح طه خصيفان الذي كان قبل هذا المنصب يعمل مديرا للمباحث العامة برتبة فريق اول، وقد خدم وطنه في الكثير من المواقع الأمنية. فماذا عسى أن يقال إزاء رحيل شخصية وطنية بارزة بحجمه، حيث يعجز أرباب البيان أن يحيطوا بكل عطاءاتها وإنجازاتها، نسأل الله أن يغفر له، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة. لكَ في الحشا قبرٌ وإن لم تأوهِ ومن الدموعِ روائحٌ وغوادي والحق أنه قد أصاب محبيه وكل من يعرفه من الحزن ما أصاب أفراد أسرة آل طه، عظم الله أجرهم وجبر مصابهم في فقيد الوطن. مات النبيُّ ولم يخلد لأمته لو خلد اللهُ خلقًا قبله خلدا للموتِ فينا سهامٌ غير خاطئةٍ من فاته اليومَ سهمٌ لم يفته غدا إن من تتبع سيرة الفقيد منذ طفولته يجد أنه كان يلازم والده الفريق طه خصيفان المعروف بصيته وكرم أخلاقه، كما أنه رحمه الله تعلم في الحرم المكي، فتشرب المبادئ والقيم الدينية، فجمع بينها وبين دروس والده الفريق طه خصيفان الذي غرس فيه الولاء والوطنية ومكارم الأخلاق تربيةً وتنشئةً، كما أنه كان يتردد على المنتديات الأدبية المكية؛ فاكتسب معارف ومهارات أهلته للالتحاق بمدرسة الشرطة متدرجًا إلى أن أصبح قائدًا لمرور مكة، فقائدًا لقوة شرطتها، ثم أسندت إليه إدارة مباحث العاصمة المقدسة، ثم اختير بعد سنوات ليكون مساعدًا فنائبًا لمدير عام المباحث العامة -رحمهم الله جميعًا- إلى أن صدر الأمر بتعيينه مديرًا عامًا للمباحث العامة، ورئيسًا للجنة الضباط العليا لقوى الأمن الداخلي وللمجلس الأعلى لكلية الملك فهد الأمنية، وفي عام 1423ه أحيل إلى التقاعد بناء على طلبه، وتم تعيينه مستشارًا لخادم الحرمين الشريفين بالديوان الملكي بمرتبة وزير. كان الفقيد رحمه الله من الشخصيات القيادية المؤثرة والعقليات الأمنية الحكيمة قائدًا أمنيًّا محترفًا من الطراز الأول، وكان مجموعة علوم، وموسوعة معارف، وذا حضور جذاب، وعقل راجح، وشخصية تأسر كل من يتحدث إليها؛ حتى إنه ليخيل لمن يقابله لأول مرة وكأنه يعرفه منذ زمن بعيد، لا يلقاك إلا وتجد منه حرارة الاستقبال، ومشاعر الإنسانية الضافية، والحفاوة البالغة. تدرج في سلم المسؤولية والمناصب من الميدان وبالممارسة الأمنية الفعلية، وصولًا إلى مراكز صناعة القرار في مجاله، مستصحبًا في كل محطات أعماله مخافة الله سبحانه وتعالى، والمهارة الفائقة في حسن اختيار القيادات التي تعمل معه بعد متابعة تأهيلهم علمًا وسلوكًا وتدريبًا، وتعاهدهم بالتوجيه والتشجيع، فنال رحمه الله تقدير واحترام رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء، وكان يتمتع بكاريزما مؤثرة، كما أنه محاور بارع، تولى قيادة قطاع المباحث العامة سنوات طويلة، وعاصر أحداثًا أمنية في فترة شديدة الحساسية، كثيرة المهددات في تاريخ العالم العربي. عرفتُ الفقيد بداية من خلال عمي أبي عبد الرحمن الذي عمل مع والده الفريق طه خصيفان في شرطة مكةالمكرمة -رحمهم الله جميعًا-وكان على صلة بأصدقاء والده حفيًّا بهم، حتى إنه سألني مرارًا عن أبناء عمي وأحوالهم بعد رحيل والدهم، واستمر التواصل معه في مناسبات عدة للنهل من معين علمه، وبحر تجاربه وإنسانيته، وذلك قبل وبعد الانتقال إلى عملي في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، وأذكر انه كان من ضمن طلابي بعض أبناء اسرته فرأيت ولمست حقيقة التميز والأخلاق الفاضلة، وكان من ضمنهم شقيقه الخلوق اللواء متقاعد عدنان طه خصيفان، وفي احدى المرات تشرفت بتقديم واحد من مؤلفاتي لمعاليه، فتلقيت منه بعد عدة أيام خطابًا جميلًا خطّه بيده، يأخذ بالألباب، ويمثل لوحة إبداعية في روعة الأسلوب وجمال الخط وأناقته وفي تشجيعه وسعادته بإنجازات أبناء الوطن . وأحسن الحالات حال امرئ تطيب بعد الموت أخباره يفنى ويبقى ذكره بعده إذا خلت من شخصه داره استطاع رحمه الله أن يغير الصورة غير المنصفة التي دسها بعض المغرضين عن المؤسسات الأمنية في فترة من الفترات، وخاصة عن “المباحث العامة” فكرّس هو والعاملون معه وبتوجيه من القيادة مفاهيم راقية لتعظيم أهمية التعامل الأمثل والانتقال بالعمل الأمني إلى مرحلة متقدمة تكون متسقة مع كون “المواطن رجل الأمن الأول” والأمن أساس التنمية والازدهار، وكل المؤسسات الأمنية والعسكرية هي في خدمة الشعب والذود عن الكيان والمنجزات وعن الوحدة الوطنية في ظل القيادة الحكيمة أعزها الله ونصرها، حتى اصبح جهاز المباحث العامة محل تقدير القيادة، ومصدر ثقة وامن وطمأنينة الجميع. رحم الله الفقيد الذي افنى حياته (أكثر من 50 عاما) من أجل خدمة الأمن والاستقرار من خلال مسؤولياته، فكانت حياة حافلة بالإنجازات، مرصعة بالأعمال الجليلة والتضحيات، وستظل سيرته المشرفة ينبوعًا لا ينضب، وقدوة وطنية لا تنسى، ورمزًا خالدًا تتناقله الأجيال. وانه وبنظرته الأمنية الثاقبة في تطوير الأساليب والإجراءات والمفاهيم في آليات العمل اعتمد على أهم عنصر في النجاح وهو التعامل الراقي الإنساني؛ انطلاقًا من الدين الحنيف، ومن توجيهات القيادة، مع الانفتاح على الفعاليات المجتمعية، وخاصة المؤسسات التعليمية ممثلة في الجامعات، فأحدث نقلة نوعية تتسم بالبعد الإنساني وأخلاقيات العمل الأمني، والبحث عن الحقيقة دون تجاوز على الثوابت الدينية والوطنية، كما أن مفتاح شخصيته في ظني هو في حسن اختيار القيادات التي تعمل معه من الكفاءات المعروفة؛ ليكونوا في الإدارات والمراكز ذات التأثير، منهم من تقاعد، ومنهم قامات ورموز لا تزال تقدم وتعطي للوطن صباح مساء وبشكل منقطع النظير، وعلى رأسهم معالي رئيس أمن الدولة الأستاذ عبد العزيز بن محمد الهويريني، ومعالي رئيس الاستخبارات العامة الأستاذ خالد الحميدان وكثير من مساعديهما الذين يتشرف ويزهو بهم الوطن في كل موقع. وجملة القول إنك لا تجد أحدًا يعرفه إلا ويتحدث عنه بأطيب الصفات، وأنبل المواقف، كيف لا وهو يهب لمساعدة المحتاجين ممن يعرفهم أو لا يعرفهم، والتخفيف من معاناتهم دون كلل أو ملل، وبما لا يخالف النظام، وفى نفس الوقت يحقق الواجب والمطلب الشرعي، فكان بمثابة “البلسم” للقلوب المتلهفة. وفي مسجد الحي المجاور لمنزله بالرياض أدينا صلاة المغرب مع جموع المعزين الذين توافدوا من جميع مناطق المملكة والناس شهداء الله في ارضه ، ورحم الله الامام احمد بن حنبل الذي يروى عنه قوله : “موعدنا يوم الجنائز” ، تبادلنا أطراف الحديث مع جيرانه الذين يذرفون الدموع على فراقه، ويدعون له بالمغفرة، وقالوا: إن هذا المسجد هو من بناه على نفقته الخاصة منذ أكثر من عقدين، بالإضافة إلى مساجد أخرى، جعلها الله في ميزان حسناته. قد أفلح من بنى المساجد وقرأ القرآن قائمًا وقاعدًا وبالرغم من الهموم الأمنية الجسام وإدارة العمل اليومي فإنه كان على تواصل مع زملائه المتقاعدين، يسأل عنهم ويطمئن على صحتهم، فضلًا عن حرصه على أداء الواجب في الأفراح وفي الأحزان والاعتذار في حالة وجود ما يمنعه من المشاركة. هذه وقفة وفاء لرجل دولة، ورجل أمن، ورجل مواقف إنسانية كان ملء السمع والبصر في وطن الوفاء والأمجاد والرجال الذين خدموا هذا الوطن المعطاء وأسهموا في أمنه واستقراره، ثم غادروا الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية، ولعل الله يهب لنا من الوقت لإعداد مؤلف عن أولئك الأفذاذ من رجالات الأمن، وفى مقدمتهم والدنا المرحوم صالح بن طه خصيفان ليكونوا دائمًا في ذاكرة الوطن، وأمام جيل الشباب قدوة ونبراسًا ومشعلًا يضيء الطريق ودافعًا إلى البذل والعطاء لخدمة البلاد والعباد. وختامًا أتمنى من الأمانات والجهات المعنية تخليد ذكراه رحمه الله بتسمية معلم حضاري باسمه، وينسحب المقترح على كل من أثروا المشهد الوطني، وذادوا عن أمن الوطن واستقراره، وحملوا همه عقودًا من الزمن، من خلال المناصب التي تبوأوها في القطاعات الأمنية والعسكرية، وإنجازاتهم فكرًا وممارسة، فتسمية شارع أو مدرسة أو مستشفى أو مركز باسم هذا الرمز لفتة وفاء، ومنهج تربوي مشرق بحيث تتذكره الأجيال القادمة، وما قام به خدمة لدينه ومليكه ووطنه، وإن المسؤولين في الكليات الأمنية والمعاهد والمراكز لن تغيب عنهم أهمية إثراء المشهد والرصيد الأمني، وتكريس حضور رموزه بتداول سيرهم الناصعة، وإشعاعات عطاءاتهم الباهرة للاستلهام والاقتداء بهم. رحمك الله أبا طه وجمعنا بك على «سرر متقابلين» في جنات النعيم، فقد كنت صالحا مصلحا – ولا نزكي على الله أحدا -، ونعزي فيك أبناءك وإخوانك، وأسرتك الكريمة، ونعزي فيك الوطن، ونعزي فيك الرجال الأفذاذ أمثالك، ونعزي كل من كنت لهم نعم الأب ونعم المعين بعد الله وهم كثر. إنا لله وإنا إليه راجعون.