اخفت غيمة سوداء ماطرة وجه السماء هناك في ذروة جبل ، قرية تغفو في أحضان الغيوم تعودت عناقها وارتداء وشاحها أعواماً مديدة تفرح حين تبلل خصلات شعرها حبيبات من هتان غيماتها القرية الطفلة مافتئت تغفو على صدر أمها لترتوي وتهنأ بشئ من دفء وحنان لا تسر ولا تستمتع إلا بملاقاتها ولا يكون لارتوائها لذة إلا من هتانها وبعد كل مرة يتوقف المطر يمارس صاحبنا ذات الطقوس يخرج من منزله الحجري وقد غطا رأسه ببقايا كيس من خيش كان مملؤاً بحنطة حمراء تسلب الألباب . يعتم بالخيش وينتعل حذاءه الأسود المصنوع من بقايا إطار سيارة قديم ثم ينطلق يعدو خارج البيت يبدو منتشيا وفرحا وهو يقفز فوق بعض الحفر الملآنة بماء طيني بارد يخترق غابة من أشجار اللوزالمبللة وعيناه هناك ترمق انسياب المياه عبر ساقية تعرجت فوق متن الجبل يواصل القفز ويده مشدودة إلى مسحاة توسدت كتفه الأيمن يسير منحدرا كمثل ذاك الماء المطري يسابق بقاياه المتدفقة نحو مزرعة قصية عيونه هناك تدور وتدور تبحث عن أمر ماء يصاحب دوما بكاء السماء ويده مازالت تحكم قبضتها على المسحاة بعض بقايا البَرَدْ مازالت مضطجعة جوار بعض جدران وأكوام من التراب المركوم نسائم من برد يعقب المطر تلفح بقايا وجهه القروي الحنطي مازالت خطواته العجلى تنحدر به عبر الساقية الممتدة عبر سفح الجبل كوتر مُدًَّ بين زاويتين والمياه المنسابة عبر الساقية تبلل أسافل ثوبه حد الغرق وهو يرافق الماء المتدفق وما يلبث أن ينحني قليلا بين لحظة وأخرى يزيل حجرا أو أعشابا أو غثاء حاول عبثا أن يعيق شئ من تدفق ذلك الماء الساقية باتت أخدودا متعرجا يزيده سقوط الماء الموسمي عمقا وتعرجا أعصرا مديدة وأعواما عديده والأمطار الموسمية تنخر سفح الجبل حتى بات في بعض منعطفا ته أشبه بتلك القبور المسحاة تفعل الشئ الذي عجزت عنه أمطار الخريف العاصفة فتقتلع الأحجار التي تحاول الوقوف عبثا في وجه إندياح الماء يسيل صاحبنا أنى سال الماء في تلك الساقية يتفقد كل أجزاءها شبرا شبرا وذراعا ذراعا لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويضع بصمته عليها مرة بيده وأخرى بمساحاته ينسى كل ما حوله الظلام يتسلل رويدا رويدا وصاحبنا لا يرى إلا تلك الساقية وذلك الماء الطيني فجأة تغوص قدماه في الطين وفي ذات اللحظة يقرع أذنيه وفؤاده صوت مرهف حاد يمتشق عند كل صلاة أحزان الدنيا كلها ويرفعها إلى السماء يرفع رأسه وينصب قامته لينصت فؤاده إلى ذلك الصوت الجنائزي المألوف وهو يشق سكون القرية بمناجاة السماء يلتفت يمنة فيرى مجموعة من شهود مقابر يعرف أصحابها يلتفت يسره فترمقه شجرة لوز عتيقة منتصبة غير بعيد يكتمل المشهد وتختفي الدنيا كلها خلف سيل أخر وفيض مشاعر منهمرة