يتّفق الباحثون والمختصّون في قضايا الأمن الفكري في كل لقاءاتهم العلمية ومؤتمراتهم وندواتهم وأبحاثهم على أن الأمن والاطمئنان على سلامة الفكر وصحة الاعتقاد، وصواب العمل مطلب شرعي، وحاجة نفسية واجتماعية مما يقتضي توافر الجهود الشرعية والتربوية والأمنية والإعلامية والاجتماعية لتحقيق ذلك. ويؤكدون على " إن الجهد الأمني ليس كافياً وحده للحد من ظواهر الانحراف في الفكر، والحاجة قائمة لتضافر الجهود في مختلف المجالات عبر خطط وطنية شاملة تراعي العوامل والأوضاع والظروف الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في أحداث ظواهر الانحراف. بل إن إشاعة الفكر الآمن عامل أساس لتعزيز الوحدة الوطنية ". حماية الفكر ومن المسلم به أن تحقيق الأمن بمعناه الجامع الشامل لا يمكن أن يكون مسؤولية الجهات الأمنية فقط، مهما بلغت كفايتها وقدرتها، وذلك لأن كل جريمة أو انحراف سلوكي، يسبقه نوع من الانحراف الفكري، أو خلل في التفكير، أو قصور في التربية. ومن هنا تزايد الاهتمام بما يسمى الأمن الفكري، سعياً إلى حماية الفكر من أي انحراف قد يتحول إلى سلوك إجرامي يهدد الأمن. وفي هذا الاتجاه نتوقف بكثير من التقدير بعد النظر والخبرة الطويلة لصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله بتنبيهه لأهمية الأمن الفكري وضرورة ترسيخه في المجتمع حيث يؤكد الأمير الشهم نايف بن عبدالعزيز رحمه الله : " أن الأمن الفكري ركيزة أساسية من ركائز الأمن الشامل الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالعمل الجماعي على مختلف الأصعدة وبتضامن جميع قطاعات المجتمع كل وفق اهتماماته وقدراته وتخصصه. فكلما تكاملت الجهود وتضاعف التنسيق كلما زادت فرص تحقيق الأمن، الأمر الذي يعني تماسك المجتمع ومتانة بنائه الاجتماعي، وهذا هو المدخل الراجح لمحاربة الفكر المنحرف والأنشطة الإرهابية " . وقد يتصور البعض أن وضع برامج معينة لحماية الأمن الفكري، تستهدف فقط محاصرة الأفكار المغذية للتطرف والإرهاب، لكن الحقيقة أنها تستهدف حماية العقل من كل انحراف في التفكير، سواء كان باتجاه التطرف والغلو، أو الانحلال الأخلاقي، والخروج على ثوابت المجتمع وأخلاقه.. فالشخص الذي يقدم على تعاطي المخدرات، يعاني من خلل في التفكير، والشخص الذي يستسلم لوساوس شياطين الإنس لارتكاب المحرمات لا يختلف في انحراف تفكيره كثيراً عمن ينساق وراء الأفكار الجافية لوسطية وسماحة الإسلام. ويبقى التساؤل الذي يجب أن نطرحه جميعاً على أنفسنا، هو: من المسؤول عن حماية الأمن الفكري في بلادنا؟ والإجابة الموضوعية: أننا جميعاً شركاء في المسؤولية، فالتربية الإسلامية الصحيحة هي حجر الزاوية في منظومة جهود حماية الأمن الفكري، وهي مسؤولية الأسرة بالأساس.. تليها المؤسسات التعليمية والجامعات، ثم المؤسسات المعنية بالدعوة، والإعلام، والعمل الاجتماعي، والثقافي، والجهات الأمنية وغيرها.. فجميعنا مسؤولون عن حماية عقول أبنائنا وشبابنا من أي محاولات لتخريبها، وذلك لأننا لا نستطيع أن نحمل رجال الأمن فقط مسؤولية الرقابة على العقول، ولا يمكنهم وحدهم ذلك في عصر لا يستطيع كثير من الآباء مراقبة ما يتعرض له أبنائهم وسائل الاتصال الحديثة. الكليات الخمس إن «الأمن» مطلبٌ عظيمٌ، وغايةٌ جليلةٌ، ومن أهمها المحافظة على الكليات الخمس وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، قال الله تعالى: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة ً} (97) سورة النحل، وقد قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ( من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيّزت له الدنيا بحذافيرها ). وهذا تسعى كل الأمم والشعوب إلى تحقيقه، وتبذل كل الدول الغالي والنفيس للوصول إليه، والتمتع به؛ لأنّه هو المظلة التي يمكن من خلالها تحقيق التطوّر والازدهار، والوصول إلى النمو والارتقاء في جميع المجالات: الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والعلميَّة، والعمرانية، والطّبية، وغير ذلك، ففي وجود الأمن والأمان تتفرغ الشعوب إلى العلم والتعلم، وإلى العمل والإنتاج، ويتمكن الناس من أداء شعائرهم الدينية، والقيام بواجباتهم الوطنيَّة. أما في حالة انعدام الأمن، وفقدان الاستقرار، فإنَّ الأمم تتخلف، وعجلة النماء تتقهقر، وعملية الإنتاج تتباطأ أو تتوقف، وينزوي الناس في بيوتهم، ويقل القيام بالشعائر الشرعية المعلنة، وينعدم القيام بالواجبات الوطنيَّة، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى استدلال، فالواقع خير شاهد على ذلك، فإننا نرى الدول التي فقدت الأمن قد تدهورت أحوالها في جميع المجالات، وتراجعت في سلم الأمم، وتخلفت إلى الوراء عقودًا طويلة، وأزهقت فيها أرواح بريئة، وترتب على ذلك مشكلات عويصة من الناحية النفسية والبدنية والاجتماعيَّة يحتاج علاجها إلى أجيال وعقود. ومن أجل هذا كانت مسألة الأمن في الإسلام من أهم المسائل والقضايا، ومن أجل تحقيق الأمن والأمان شرعت الحدود، وفرض القصاص، ووجدت الأحكام، والتعزيرات، وغير ذلك. فقد روى البخاري عن خباب بن الأرت – رضي الله عنه – قال: شكونا إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو متوسد بردة له في ظلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتَّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون ) . دولة إسلامية وهذا أمرٌ أدركه قادة المملكة العربيَّة السعوديَّة منذ نشأتها وتوحيدها على يد الملك المجاهد عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل – رحمه الله – كدولة إسلامية شرعيّة وأرسى منذ تأسيسها دعائم وأسس الحفاظ على الأمن الفكري، حيث نصّ النظام الأساسي للحكم ( المادة الأولى ) الصادر بالأمر الملكي رقم: أ 90 وتاريخ 27 / 8 / 1412 ه على أن المملكة دولة عربية إسلامية ذات سيادة، دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا تأكيداً من ولاة أمرنا بأن الحفاظ على الأمن الفكري لا يكون إلا من خلال السير على نهج الكتاب الكريم والسنة النبوية. وكتاب ربنا عز وجل يؤكد على الأمن وجعله قريناً لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَ?ئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام 82، وقال تعالى: ( وعد الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ منْ قَبْلِهِم وليُمكنّن لهم دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ومن كَفَرَ بَعْدَ ذَ?لِكَ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) النور 55، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً " . إذاً الأمن مقصد رئيسي من مقاصد الشريعة الإسلامية بل هو ضرورة في حفظ النفس والنسل والمال والعقل، ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال حفظ تلك الضروريات إلا بوجود الأمن. دراسات علمية ونظراً لما يمثله الأمن الفكري من ضرورة داخل المجتمع السعودي لأنه عامل رئيسي في استقراره، واستقامة أوضاعه، وازدهار بنائه، ويبعده عن المشاكل والقلاقل. وأنه من الأهمية بمكان الاستمرار في عمل البحوث والدراسات العلمية في مجال الأمن الفكري وترسيخ مقوّمات الفكر الآمن وفق معايير وضوابط متلمسة مواطن الخلل ودراستها دراسة علمية من كافة جوانبها. ومن بين الدراسات العلمية التي تمّت ما قام به د. إبراهيم الزهراني بدراسة عن: " الأمن الفكري: مفهومه، وضرورته، ومجالاته " وخرج بمجموعة من النتائج التالية: 1. أن الأمن بالنظر إلى مقاصد الشرع هو: الحال التي يكون فيها الإنسان مطمئنًا في نفسه، مستقرًا في وطنه، سالمًا من كل ما ينتقص دينه، أو عقله، أو عرضه، أو ماله. 2. وأن الأمن لا يتحقق ما لم يكن هناك حفظ للضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحفظها. 3. أن الفكر يشمل النظر العقلي، وما ينتج عن ذلك النظر والتأمل من علوم معارف. 4. أن الأمن الفكري هو: الحال التي يكون فيها العقل سالمًا من الميل عن الاستقامة عند تأمله، وأن تكون ثمرة ذلك التأمل متفقةً مع منهج الإسلام على وفق فهم السلف الصالح، وأن يكون المجتمع المسلم آمنًا على مكونات أصالته، وثقافته المنبثقة من الكتاب والسنَّة. 5. أن الأمن الفكري شاملٌ للفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، والموضوعات التي أنتجها العقل البشري، وكذلك شامل لفكر الفرد ومكونات فكر المجتمع، وأن الأمن الفكري لا يتحقق إلا بالالتزام بمنهج الإسلام على وفق فهم السلف الصالح. 6. أن الأمن الفكري حاجة ضرورية لا تستقيم الحياة بدون توفره؛ لأنه أحد مكونات الأمن بصفة عامة، بل هو أهمها وأسماها وأساس وجودها واستمرارها. 7. أن الإخلال بالأمن الفكري يؤدي إلى تفرق الأمة وتشرذمها شيعًا وأحزابًا، وتتنافر قلوب أبنائها، ويجعل بأسهم بينهم، فتذهب ريح الأمة، ويتشتت شملها، وتختلف كلمتها. 8. وجوب توجيه الأنظار إلى العناية بالفكر بتوفير كل أسباب حمايته واستقامته والمحافظة عليه. وكذلك العمل على رصد ودراسة كل ما من شأنه التأثير على سلامة الفكر واستقامته. 9. وجوب العمل على معالجة أسباب اختلال الأمن في المجتمع بشكل متكامل ومترابط من غير فصل بين أنواع الأمن، ولا تفريق بين تلك الأسباب. 10. أن النظرة الشاملة لأسباب اختلال الأمن بجميع أنواعه تجعل المعالجة شاملة ومتكاملة، وهو ما يوفر على الجهات المختصة بأمن المجتمع الجهود، ويحمي الأمة من تبعات الفصل في المعالجة بين أسباب اختلال الأمن، ويوصل إلى النتائج المثمرة، والغايات المحمودة في أسرع وقت. 11. وجوب أن تكون المعالجات الأمنية من واقع الأمة، مستقاةً من مصادر فكرها وعقيدتها، وبناءً على مقتضيات حاجتها بعيدًا عن التقصير والشطط. 12. أن ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من أحداث التكفير والتفجير وشدة اختلاف مرده إلى انحراف فكر بعض أبنائها، وهو ما ينبئ بخطورة الاختلاف بدافع عقدي. 13. أن الأمن الفكري لا يتحقق إلا بالتزام منهج الإسلام في التفكير، وما ينتج عن ذلك التفكير من علوم ومعارف. 14. أنه يجب صيانة الفكر حال التأمل من: النظر والتأمل فيما لا يدركه العقل، وفيما لا فائدة من النظر فيه، والنظر والتأمل من الجاهل، والنظر في كتب الضلالة، ومصادر الأفكار المنحرفة. 15. أن صيانة الفكر حال التأمل يؤدي إلى: حماية المكلف من: الوقوع في معصية القول على الله بغير علم، ومن قفو ما لا يعلم، والحيرة والشك والاضطراب، واعتناق المذاهب المنحرفة والأفكار المضلة، والمجتمع من الأفكار المضلَّة، وثمرات الفكر المنحرف، ويحفز على العمل على استنباط مناهج التفكير المستقيم. 16. أن هناك أمورًا عديدةً يجب أن يخلو منها ما ينتجه العقل الإنساني من علوم ومعارف، ليكون فكرًا آمنًا سالمًا من الانحراف، سواء أكان ذلك في جانب الإفراط أو في جانب التفريط: ومن تلك الأمور: الغلو، الإرجاء، وتتبع الرخص الفقهية بالتشهي. 17. أن شيوع المنكرات والفساد والظلم في المجتمع، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير فيه، من أسباب ظهور الغلاة في كل زمان. وخرجت الدراسة بعدد من التوصيات التالية: 1- تضمين مناهج التربية والتعليم المنهج الإسلامي في التفكير والاستنباط. 2- العناية بتدريس العقيدة الإسلامية وفق منهج السلف الصالح. 3- نشر العلم الشرعي المستقى من الكتاب والسنَّة بفهم السلف الصالح في المجتمع، مع البعد عن كثرة الاختلاف وأسبابه. 4- تشجيع أهل العلم الشرعي الصحيح، والمنهج الحق على القيام بالدور المنشود منهم. 5- حماية المجتمع من مصادر الفكر المنحرف، سواء أكان ذلك في جانب الإفراط أو التفريط. 6- تنمية جانب الاحتساب في أفراد المجتمع، ودعم التوجهات الخيرية فيه. 7- منع مظاهر الفساد، ومحاربة مصادره في المجتمع. تعزيز الأمن الفكري والأمن الفكري وترسيخه ليس خاص بالمجتمع المدني فقط، بل المجتمع العسكري وهم شركاء أساسيون في ذلك لأنهم مواطنون قبل وأثناء وبعد العسكرية. وقد عملت دراسة علمية لنيل درجة الماجستير بعنوان: " دور التخطيط الاستراتيجي في تعزيز الأمن الفكري لدى رجال الأمن في المملكة العربية السعودية دراسة مسحيّة على ضباط الشرط بمدينة الرياض قام بها محمد بن عبدالله الغنام. وقد انحصرت مشكلة الدراسة في تحديد دور التخطيط الاستراتيجي في تعزيز الأمن الفكري لدى رجال الأمن في المملكة العربية السعودية. وتشكل مجتمع الدراسة من الضباط العاملين في مراكز شرطة مدينة الرياض والبالغ عددهم (234) ضابطاً. حيث قام الباحث بحصر شامل لجميع أفراد مجتمع الدراسة، واستخدم المنهج الوصفي التحليلي عن طريق المدخل المسحي باستخدام الاستبانة والمقابلة كأدوات لجمع البيانات. وقد خرج الباحث بمجموعة من النتائج عن الدراسة من أهمها: 1. أن المفاهيم التي تعبر عن إدراك رجال الأمن في المملكة لمفهوم وأهمية الأمن الفكري بدرجة عالية هي: التصدي للاتجاهات الفكرية المنحرفة، وصيانة فكر رجال الأمن من الانحراف أياً كان نوعه، ووقاية رجال الأمن من الانحراف الفكري مستقبلاً. 2. أن المفاهيم التي تعبر عن إدراك رجال الأمن في المملكة لمفهوم التخطيط الاستراتيجي في المؤسسات الأمنية ودوره في تعزيز الأمن الفكري للعاملين بها بدرجة عالية هي: الاستعداد لمواجهة التغيرات المستقبلية، وتشجيع القادة على وضع رؤى مستقبلية لتعزيز الأمن الفكري، وإيجاد بيئة مناوئة للانحراف الفكري. 3. أن الدوافع المهمة جداً لتفعيل التخطيط الاستراتيجي الهادف لتعزيز الأمن الفكري لدى رجال الأمن في المملكة هي: كفاءة التخطيط الاستراتيجي في توفير سبل الوقاية من الانحراف الفكري في المجالات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفاعلية التخطيط الاستراتيجي في منح ميزة السبق والمبادرة في محاصرة مخاطر الانحراف الفكري.