مرة أخرى تتكرر في جنيف اللعبة الغربية مع مؤتمر مكافحة العنصرية كما جرت في دوربان بجنوب إفريقيا عام 2001، آنذاك لم تنقطع المساعي المبذولة من جانب الحكومات الغربية ومن جانب "المنظمات غير الحكومية"، الغربية نشأة وفكرًا ومقرًّا، إلى أن أسقطت (نتيجة تراجع معظم الوفود الرسمية الحكومية العربية برغم توافر غالبية مريحة) عن مطالبها، وكان مما سقط آنذاك الاقتراح السوري لإعلان عنصرية الحركة الصهيونية، على ضوء مشاهد الانتفاضة الأولى وما كان يمارسه زعماء الصهيونية لإخمادها. تمييع النتائج.. ثم المقاطعة ليست مؤتمرات مكافحة العنصرية وحدها التي تشهد أسلوبا أمريكيا -وفي الوقت الحاضر غربيا على وجه التعميم- لتمييع نتائج مؤتمر دولي، ثم الغياب عن تبني تلك النتائج، كيلا تلزمها "البقية الباقية" منها ولو أدبيا، فهذا ما صنعته الولاياتالمتحدةالأمريكية على حساب الأوروبيين مرارًا كما كان في مؤتمرات الإعداد لميثاق كيوتو حول المناخ العالمي، أو ميثاق روما لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية؛ فالحضور في المفاوضات التمهيدية على صياغة النتائج آنذاك استهدف حذف أكبر قدر ممكن من مضامينها، أو تمييعها، حتى إذا تم ذلك رغبة من الدول الأخرى في دفع "الدولة الكبرى" إلى المشاركة تقديرًا لثقلها السياسي والمالي، لم يعد يمكن الرجوع إلى النصوص الأصلية، وفي الوقت نفسه، كانت "الدولة الكبرى" لا تستجيب لتلك الرغبة، فترفض المشاركة في تبني الميثاق النهائي، أو تنسحب مسبقا، أو تمتنع عن تصديقه لاحقًا. وشبيه ذلك ما صنعه عدد من الدول الأوروبية في التحضير لمؤتمر جنيف، فاستبقى معظمها قرار المشاركة حتى اللحظة الأخيرة عشية انعقاد المؤتمر ليعلن موقفه النهائي من المشاركة فيه. هذه اللعبة، أو هذا "الفخ"، لم تقع فيه الدول الأوروبية عند استصدار الميثاق العالمي لمكافحة الألغام الموجهة ضد الأفراد، فصدر بصيغته الأصلية آنذاك برغم امتناع الولاياتالمتحدةالأمريكية عن المشاركة فيه، وبدا كما لو أن الأوروبيين قرروا "التميز السياسي" عن الأمريكيين في التعامل مع قضايا عالمية ملحة، وهو ما انعكس في التعامل جزئيًّا مع المناخ العالمي والمحكمة الجنائية الدولية. إنما لا يبدو أن الدول العربية والإسلامية ومعها الدول النامية عموما راغبة في الاستفادة من مثل هذه الدروس في العلاقات الدولية، لتمضي -وقد أصبحت تمثل عددا وسكانا أكثر من ثلثي العالم- لإعطائها صورة أخرى غير تلك الموروثة عن حصيلة الحروب الاستعمارية والحربين العالميتين. وقد أضيعت الفرصة في دوربان قبل 8 أعوام ويتم تضييعها الآن في جنيف عام 2009، حيث أوصلت المفاوضات التمهيدية إلى إلغاء أهم بندين لمكافحة العنصرية بوجهها الكالح المعاصر، أولهما ممارسة الإساءات المتوالية ضد الأديان، ولا سيما الإسلام باسم "حرية التعبير"، وهو ما يعني واقعيا ترسيخ ما تراه أقلية علمانية أصولية في الغرب "حقًّا" لها بصدد توجيه تلك الإساءات إلى المجموعة البشرية المتدينة الكبرى، من مسلمين وسواهم، وثانيهما ما أصبح جدار الفصل العنصري من أحدث الأدلة عليه وأصبحت الجرائم الحربية المرتكبة في فلسطين مرة بعد مرة من أبشع صوره التطبيقية. رئيسة مؤتمر جنيف ورئيس مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان نيفي بلاي صرحت قبيل المؤتمر بأن جميع العبارات التي تشير إلى "منطقة الشرق الأوسط" وإلى "الإساءة للأديان" حذفت من مسودة البيان الختامي، ولكن رفض الحضور رسميا بقي على حاله من جانب الأمريكيين والكنديين والأستراليين والإيطاليين وغيرهم من الأوروبيين. تسييس قضايا الفكر والإنسان ليس صحيحا على الإطلاق أن حكومات الدول الإسلامية أو بعض المنظمات "القليلة" غير الحكومية من بلدان إسلامية هي التي تمارس "استغلال المؤتمر للحملة ضد الصهيونية"، وهي الصورة المراد تعميمها غربيا ويشارك في ذلك -للأسف- فريق من حملة المسئولية السياسية والإعلامية من البلدان العربية والإسلامية نفسها. فعلاوة على قضايا أخرى مطروحة مثل "التعويضات عما صنعه التاريخ الغربي على صعيد تجارة الرقيق" أو "قضية المهاجرين" وكيف أصبح التعامل الغربي معهم بما ينتهك المواثيق الدولية ويعترف الغربيون بذلك بصورة غير مباشرة عندما يتحدثون مثلا عن "قوانين استثنائية"، علاوة على ذلك لا تستنكف هذه الدول -وهي غير المعنية بأي مسئولية بصدد تاريخ النازية- عن إدراج ممارساتها العنصرية قبل أكثر من ستين عاما في وثيقة المؤتمر الختامية، إنما الذين يستغلون المؤتمر الدولي في جنيف وسواه، من أجل توجيه أنظار البشرية نحو قضية واحدة، وهي تلك الممارسات الإجرامية النازية مع اعتبارها فوق كل ما عداها على امتداد التاريخ والحاضر والمستقبل، هم الذين يقاطعون مؤتمر جنيف الآن، أو يقومون بحملاتهم ضده -كحملاتهم ضد سواه أيضا- عبر منظورهم هم لتلك القضية وحدها، والشواهد على ذلك كثيرة. - التعليل الذي تناقلته وسائل الإعلام وأوساط سياسية (مثل جنتر نوكي، المفوض الحكومي الألماني لشئون حقوق الإنسان) إلى عشية المؤتمر بشأن "ترجيح" مقاطعته هو حضور أحمدي نجاد، ليس بسبب ملف إيران النووي، بل بسبب معاداته للإسرائيليين. - التعليل الرسمي للمقاطعة من جانب أستراليا وإيطاليا وهولندا وكندا والولاياتالمتحدةالأمريكية كان من البداية مركزا على اتهام الإسرائيليين أو الصهيونية بالعنصرية، أو بادعاء أن المؤتمر سيكون "سيركا دعائيا لتشويه سمعة إسرائيل" على حد تعبير وزير الخارجية الهولندي ماكسيم فيرهاجن، أو أن المؤتمر سيكون موضع استغلال كمنبر للتعبير عن آراء عدائية بما في ذلك الآراء المعادية للسامية على حد تعبير ستيفن سميث وزير الخارجية الأسترالي. - أحد نقاط النقد الشديدة التي سبقت المؤتمر كان توجيه الدعوة إلى منظمة "الشمال والجنوب 21" التي يرأسها أحمد بن بيللا بدعوى ارتباطها بما سمّي جائزة القذافي، ليس بسبب طبيعة الحكم الليبي، بل لأن هذه الجائزة منحت عام 2002 لثلاثة عشر شخصا من بينهم روجيه جارودي الذي ينكر ما يعتبره المسئولون الغربيون بدهية تاريخية لا يجوز البحث العلمي بصددها أو بصدد حجمها وهي المحرقة النازية. - وعلاوة على رفض "الطعن" في حرية التعبير، وبالتالي رفض اعتبار الإساءة للأديان أمرا عنصريا، ركزت راما ياد وزيرة حقوق الإنسان الفرنسية على ما اعتبرته أمرا حيويا لبلادها وهو "مكافحة العداء للسامية". صوت خافت وحضور باهت إن الدول الغربية هي التي سعت إلى تحويل مؤتمر دوربان 1 لمكافحة العنصرية وإلى تحويل مؤتمر دوربان 2 في جنيف لمكافحة العنصرية إلى ساحة استغلال سياسي، ليؤدي مهمة تحصين العنصرية الصهيونية والغربية تحديدا من أي انتقاد دولي، برغم أن العنصرية ولدت فكرا وترعرت ممارسة وتعددت مظاهرها تطبيقا وانساحت موضوعيا في مختلف الميادين المعيشية وجغرافيا في أنحاء العالم، على أرضية الغرب، الأمريكي والأوروبي، وفيما زرعته في القلب من المنطقة العربية والإسلامية. وكان يفترض أن يكون تحرك الحكومات العربية والإسلامية عبر وفودها الرسمية في المجلس الدولي لحقوق الإنسان الذي يضم 47 دولة، تحركا فعالا، أو أن تفسح المجال على الأقل للمنظمات غير الحكومية في الدول العربية والإسلامية لتحرك فعال، على صعيد "ضحايا" تلك العنصرية، على أساس التكامل بينهم وهم في الدرجة الأولى في تلك البلدان وسواها من البلدان النامية ضحايا الاستعباد والاستعمار والاستغلال على مدى قرون عديدة، وعلى النقيض من ذلك، فكما كان الموقف الرسمي في مؤتمر دوربان 1 محبطا، وأضاع بعض ما أنجزته منظمات غير حكومية ناشطة آنذاك خلال الشهور السابقة لانعقاده ثم في مؤتمر مواز له، يبدو الموقف الرسمي الآن محبطا أيضا، ليس من خلال التراجع عن النصوص التي كانت مقترحة للبيان الختامي فقط، بل حتى على مستوى الوفود المشاركة، كما يشير إلى ذلك يسري مصطفى الذي كان من المسئولين عن التنسيق على المستوى العربي في دوربان، أو زياد عبد الصمد من المسئولين عن التنسيق بين المنظمات غير الحكومية في جنيف الآن. ويبدو أن بعض هذه الحكومات العربية والإسلامية، يخشى من أن يشمل النقاش مظاهر التعامل العنصري تحت سلطانها أيضا، بحضور زهاء أربعة آلاف مشارك في جنيف من مختلف أنحاء العالم.