كان هدف الأديب والكاتب غابريل غارسيا ماركيز من الكتابة هو التحدث عن الحياة. وأنا سوف أتحدث وأكتب هنا عن ما جرى في الأيام الفائتة من أواخر شهر شعبان وربما غدا هو الأول من شهر رمضان المبارك، شهر الخير والرحمة والقرآن والغفران، فكل عام وأنت أيها القارئ العزيز بخير وفضل وسعة. في صبيحة يوم الأربعاء العشرين من شعبان من هذه العام وقبل أيام وليال صعدت روح أبي إلى السماء مودعة الحياة الدنيا، معلنة الغياب التام والفقد الأليم والخسارة المعنوية والاختفاء الجبري والانكسار العاطفي والانحسار الأسري والفراغ الكبير! تسعة وعشرون مضت من عمري وأنا أعيش تحت سقف الأبوة الحانية والقلب الكريم والعين العطوف والسؤال المستمر والاهتمام غير المنقطع والرعاية الكاملة والعناية الفائقة. رحل أبي بتدرج إلى المقر الأخير، وهذا من لطف الله عز وجل، لم يمت فجأة، كنا نعلم المدة الزمنية المتبقية له للعيش، وفق الكلام العلمي للأطباء، ونحن على رجاء بأن تطول فترة عمره، للبقاء سليما معافى بين أهله وأسرته وأحبابه وأصدقائه. بين اكتشاف المرض ووفاته، عام كامل، كان منزله رحمه الله مكتظا بالرجال الأوفياء والأصدقاء الأنقياء والصحبة الكريمة والرفقة التقية، وكأن لسان حالهم في كل زيارة، إنا على فراقك لمحزونون، كانوا على موعد معه ومعنا نحن للسؤال عن حالته الصحية وعن التطورات في المرحلة العلاجية. عندما ساءت حالته الصحية، وعند ذهابنا للمشفى، كان بوعيه، لكنه يتألم من شيء! ولم نكن نعلم ماذا يحصل في الداخل. عند الكشف الأولي والمبدئي لم تظهر عليه علامات خطيرة في الأشعة المقطعية، ولا شيء يستدعي للمكوث طويلا في الطوارئ. خرجت وأخي عبدالعزيز –الذي اسأل الله له بر ابنه زياد- لأنه كان الوحيد من بيننا الأكثر برا وقربا وملازمة وخاصة في العامين الماضيين من حياة الأب المرحوم – أبو طارق-. كتب الله لك الأجر يا أخي وأسعدك وبارك فيك ورزقك الثبات والصبر. إنا لله وإنا إليه راجعون. خرجنا من المشفى فجرا بعد أن غفا والدي، وبعد أن قال لنا طبيب الطوارئ تعالوا عند الساعة الثامنة صباحا لاصطحابه إلى المنزل! إلا أن القدر، كان له رأي آخر، فكان منزله القبر، جعله الله روضة من رياض الجنان وجمعنا به في جناته. فقد تعرض لنزيف مفاجئ في الدماغ عند الساعة السابعة والربع صباحا وأدخل على اثره العناية المركزة وعين الله ترعاه. هنا أيقنا جميعا بقرب أجله، فتذكرت كلامه لنا عندما كان يرقد في الطوارئ قال لي وأخي وأثناء بقائنا الأخير معه رحمه الله: اشعر بدنو أجلي! نعم قال ذلك حرفيا، قلت له استغفر الله يا أبوي ..! إلا أنه يقينا كان يعلم رحمه الله أن أجله قد اقترب، لأن الله عز وجل يقول لنا إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. في العناية المركزة حيث لا عناية إلا عناية الإله ولا رعاية إلا رعاية الرب، لم تطل فترة بقائه، فقد مكث عشرة أيام فقط، ثم بعد ذلك أخذ الله أمانته، بعد حياة مليئة بالشرف، والشجاعة، والرجولة، والكرم، والأخلاق، والبر لوالدته، التي اسأل الله لها الصبر والسلوان وأن يربط على قلبها، لأنها لم تستوعب ما حصل لابنها، تفطر قلبها وتألم، سبقها إلى الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا بإذنه تعالى. إذن أغلق باب وبقي آخر، وهو باب الأم، باب الجنة، باب البركة، باب السعادة، باب الأُنس، باب البهجة، باب العزة، أعزيك يا والدتي في زوجك الذي لم ير إلا كل خير منك، ولم تر عينه زوجة أخرى في حياته سواك، كنت له الطهر والعفاف، وكان لك حسن الرجل والخلق. أدعو الله عز وجل في ختام هذه السيرة العطرة والخاتمة الطيبة والكلام المختصر، أن يسكن والدي الفردوس الأعلى من الجنة وأن يغفر له ويرحمه، وأسأله تعالى أن يشفيك يا أمي ويرفع عنك الضر إنه قريب سميع مجيب الدعاء. والحمد لله رب العالمين ..