رغم استئناف المفاوضات الفلسطينية "الإسرائيلية" في نهاية يوليو/ تموز الماضي شددت حكومة نتنياهو الحصار المفروض على قطاع غزة، ووسعت الاعتداءات العسكرية عليه، وكثفت إجراءات مصادرة أراضي الضفة واستيطانها وتهويدها . هذا عوضاً عن التصعيد غير المسبوق في وتيرة تهويد القدس والاعتداء على مقدساتها ومحاولة السيطرة عليها أو تقسيمها على الأقل . بل ولم يمنع استئناف المفاوضات الأجهزة العسكرية والأمنية "الإسرائيلية" من تكثيف عمليات الاعتقال والاستدعاء والتنكيل التي لم ينجُ منها حتى الأطفال، أو من تصعيد سياسة الاغتيال الإجرامية التي طالت حياة نحو 50 مواطناً فلسطينياً . هنا ثمة من يعزو هذا التصعيد الميداني إلى رغبة حكومة نتنياهو في جر الفلسطينيين إلى جولة جديدة من الصراع الدامي لتحميلهم مسؤولية فشل المفاوضات . ربما يكون الأمر كذلك في توقيته وبعده التكتيكي . لكن المؤكد هو أن فائض عنجهية هذه الحكومة الصهيونية يعميها ويغرقها في أوهام الاعتقاد بإمكان الفصل إلى ما لا نهاية بين المفاوضات والتصعيد الميداني الذي يفرغها من كل مضمون، ويحولها إلى مجرد غطاء لجرائم الاحتلال المتصاعدة، بل والاعتقاد أن بوسع التمادي في ارتكاب جرائم الحرب الموصوفة سيفضي إلى ردع الفلسطينيين "وكي وعيهم" المقاوم بالمعنى الشامل للكلمة . وهذه فرضية صهيونية قديمة جديدة ثبت بطلانها، حتى إن أوساطا سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية "إسرائيلية" ما انفكت تحذر أركان حكومة نتنياهو من مغبة التعلق أكثر من اللازم بأهداب هذه الفرضية . ما يعني أن التصعيد الميداني إن هو إلا صدى لصوت سياسة يحركها تشدد أيديولوجي صهيوني تعكسه وتكثفه التصريحات العلنية المتلاحقة لأركان حكومة نتنياهو الذي لخص الأمر برمته في آخر تصريح له حيث قال: "لن أوافق على أي اتفاق لا يتضمن إسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين والاعتراف ب"إسرائيل" "دولة للشعب اليهودي"، ولن تعرض حكومتي مثل هذا الاتفاق على الاستفتاء الشعبي" . وكأن إسقاط حق العودة لا يعني تصفية جوهر القضية الفلسطينية أو أن الاعتراف ب"إسرائيل" "دولة للشعب اليهودي" لا يعني التسليم بجوهر المشروع الصهيوني وبما فرضه على الأرض من حقائق . لكن حكومة نتنياهو الغارقة في أيديولوجيتها الصهيونية وفرضياتها الواهمة تتجاهل أن هذا التصعيد السياسي وما يفرزه من تصعيد ميداني غير مسبوق قد حول الحالة الشعبية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967 إلى حالة مرجل يغلي أو إلى حالة بركان ينتظر شرارة الانفجار . فالهبات الجماهيرية المتلاحقة خلال السنوات الثلاث الماضية بما صاحبها وتوالد عنها من أعمال مقاومة متنوعة واشتباكات ومسيرات وتظاهرات واعتصامات ومظاهر احتجاج حاشدة تنذر بانفجار شامل وتدل على أن تيار مقاومة الاحتلال بالمعنى الشامل للكلمة يتدفق بغزارة في أوصال وعروق الحالة الشعبية، وعلى أن تمييع الحالة الجماهيرية عوض تصليبها إنما يعود إلى هبوط مواقف القوى السياسية الوطنية المنظمة، عموماً، وإلى الانقسام الداخلي المدمر، خصوصاً . ما يعني أنه يمكن إرجاء الانفجار الشعبي الشامل أو تمييع مقدماته الماثلة في الهبات الجماهيرية المتلاحقة، أما أن يتم إبطال مفاعيله أو التحكم بها والسيطرة عليها إلى ما لا نهاية فأمر غير ممكن . أما لماذا؟ لئن كان العامل الذاتي متمثلاً في انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية وتدني مواقف بعض نخبها القيادية هو ما يحول دون حدوث الانفجار الشعبي الشامل، فإن العامل الموضوعي متمثلاً في سياسات الاحتلال التي تستبيح فلسطين شعباً وأرضاً وحقوقاً وكرامة هو المحرك الأساس والعامل الأهم لتحويل الحاصل من هبات جماهيرية إلى اشتباك واسع وممتد ومتصاعد . فالاحتلال لا ينفك يترجم يومياً سياسة مخططة لمصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها وتفريغها وسرقة مياهها، عوضاً عما يرتكبه بصورة يومية أيضاً من تقتيل واعتقال واغتيالات وإذلال ومسّ بالكرامة، واعتداءات على الممتلكات والحقول، وتدمير البيوت، وإتلاف المزروعات، وتقييد الحركة والسفر، واستباحة المقدسات، ومحاولات سن قوانين السيطرة عليها وتهويدها وتغيير معالمها وتقسيمها . بل ما انفك يمارس كل ما من شأنه تفكيك أواصر الشعب الفلسطيني وضرب هويته وتدمير ميكانيزمات وجوده وتطوره وتنميته، وتعزيز إجراءات إلحاقه وتغذية استمرار انقسامه الداخلي .