في حين تواجه الحكومة المصرية سخطا شعبيا منذ سنوات بسبب الاتجاه إلى بيع أصول شركات وبنوك حكومية يعيد كتاب لباحث أمريكي الاعتبار إلى الاقتصادي الرائد طلعت حرب مؤسس (بنك مصر) كما يقدم بانوراما لاستجابة قطاعات عريضة من المصريين للدعوة لإنشاء بنك وطني كجزء من مواجهة الاحتلال البريطاني للبلاد آنذاك. فبعد بيع (بنك الإسكندرية) أعلنت الحكومة عن طرح (بنك القاهرة) للبيع وسط غضب شعبي ساندته الصحف الحزبية والخاصة حتى إن عشرات من المثقفين والاقتصاديين وزعماء الأحزاب اقترحوا فكرة الاكتتاب العام لشراء أسهم البنك بدلا من بيعه. ويلقي الباحث الامريكي إيريك ديفيز أضواء على فترة إنشاء بنك مصر عام 1920 حيث دعا حزب الوفد انذاك لمقاطعة البضائع البريطانية وعني المصريون بسحب "ودائعهم من البنوك البريطانية وإيداعها في بنك مصر...علاوة على لجان المقاطعة شكل الطلاب لجانا لمعاونة بنك مصر على مستوى الجامعة والمدارس الثانوية على السواء وتنافست هذه اللجان فيما بينها لبيع القدر الأكبر من الأسهم" وكانت المدرسة التي تحقق هذا الهدف تحصل على عدد من الأسهم في بنك مصر. ويقول في كتابه (طلعت حرب وتحدي الاستعمار.. دور بنك مصر في التصنيع 1920-1941) إن حرب ورفاقه من الوطنيين المصريين "كانوا سابقين لعصرهم بشدة بمحاولتهم تأسيس أول شركة متعددة الجنسيات في العالم الثالث" في إشارة إلى عدة شركات اقتصادية انبثقت عن بنك مصر وكانت لها فروع في بعض الدول العربية. ويدلل على ذلك قائلا إن حرب (1867-1941) قام برحلات إلى الشام عامي 1928 و1929 وقابل زعماء محليين في يافا والقدس ورام الله وبيروت ودمشق تمهيدا لافتتاح فرعين لبنك مصر أحدهما في فلسطين والآخر في سوريا ولبنان حيث افتتح فرع (بنك مصر-سوريا-لبنان) عام 1930 وحقق "نجاحا...كان طلعت حرب.. وباقي مديري بنك مصر ينتابهم بلا شك قلق بشأن النفوذ الصهيوني المتصاعد في فلسطين" التي لم يتم افتتاح فرع لبنك مصر بها. والكتاب رسالة علمية لمؤلفه لنيل الدكتوراه من جامعة برينستون. والترجمة العربية التي أنجزها هشام سليمان عبد الغفار المدرس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تقع في 239 صفحة كبيرة القطع وتصدر غداً الخميس مع مطلع العام الميلادي الجديد في القاهرة عن مكتبة الشروق الدولية. وقال عبد الغفار في مقدمة الكتاب إن دور حرب "الريادي في تأسيس قلعة مجموعة مصر الاستثمارية وبنك مصر في القلب منها" كان جزءا من منظومة متكاملة كتب لها الاستمرار حتى بعد رحيل مؤسسيها. وشدد على أن أهمية تجربة حرب تكمن في دراسته الحالة الاقتصادية في سياق المحيط الاجتماعي "بحيث تأتي التجارب الاقتصادية لخدمة المجتمع لا أن يتم استغلال البشر لدفع تكلفة نمو الاقتصاد" مضيفا أن الاستقلال الاقتصادي الذي قاده بنك مصر "باقتدار" كان أساسا للاستقلال السياسي. ونوه وزير الصناعة المصري الأسبق إبراهيم فوزي في مقدمة الكتاب إلى أن هذه الدراسة تعطي نموذجا لالتزام أكاديمي "كدنا نفتقده بين باحثينا في مصر" مضيفا أن مؤلف الكتاب كان مشغولا بمعرفة جذور حرب والظروف التي شكلت وعيه وتجربته حيث نشأ في عائلة فقيرة لا تملك فدانا كاملا في محافظة الشرقية شمال البلاد لكنه "حارب" أكثر من تسع سنوات في سبيل إنشاء بنك مصر حتى تحقق حلمه بتأسيسه عام 1920. ويقول ديفيز مؤلف الكتاب إن الأصول الاجتماعية لحرب وخبراته التعليمية والمهنية وإسهامه في الحركة السياسية والفكرية المصرية كانت تركيبة "مثلى لتأهليه لتأسيس أول بنك وطني في مصر" برأسمال مشترك قدره 80 ألف جنيه مصري قبل اكثر من مائة عام.