تشير أسطورة بوذية إلى أن طبقة "النبلاء والكهنة" انحدروا من رأس بوذا، و"القادة العسكريون والجند" من ذراعيه،و"التجار والمزارعون" من فخذيه، أما طبقة "المنبوذين"، فمن قدميه !! وهكذا فالمنبوذون لا يجوز لمسهم أو الاقتراب منهم، حتى "ظلهم" نجس منبوذ. الشاعر الاسترالي "العراقي الأصل" الأستاذ يحيى السماوي يتحفنا كل عام مرة أو مرتين بإبداع ينافس به نفسه.. يخرجنا من دائرة المتشابه والمتداول والممسوخ إلى آفاق السهل الممتنع، مرتقياً سلم النفحات إلى طبقة "النبلاء" بعطائه، وجماليات صوره الفريدة، وعباراته المنتقاة، وكان آخر ما أطلق سرب عصافير تغرد منسجمة مع نفسه المضطربة بين قوسي آلام المنفى، ونعش الوطن المحمول أمام عينيه كل يوم. أطلق صرخاته وآهاته جذاذات وجد عبر ديوانه الجديد "شاهد قبر من رخام الكلمات" الطبعة الأولى 2009م.. فرثى والدته الطيبة "رحمها الله" ثم دلف - كالعادة - إلى أحزان الوطن الذي نخرته أيدي بعض أبنائه، ودبابات من حملوهم إلى سدة الحكم.. فهو القائل: من أين للوطن الغريق بلوح خشبي.. أو طوق نجاة؟ أما من جواز سفر مزور لوطن رؤوم نكس ترابه خجلاً من قادته المدجنين؟ وإن كان لابد من وقفة مطولة مع لوعة الأسى الذي يعتصر "السماوي" فأستميحكم عذراً، لنقرأ معاً صرخته المدوية.. "أطلقوا سراح وطني من الاعتقال": القادمون من: وراء المحيطات.. الغابات الحجرية الأشجار.. مدن الثلج والنحاس.. فنادق الدرجة الأولى.. اصطبلات رعاة البقر.. المباغي الأيدلوجية: أفرغوا حنجرتي من الصوت.. وعيني من الدموع.. وشفتي من الابتسامات.. ومئذنتي من التراتيل.. وصباحاتي من الألق.. ومساءاتي من النجوم.. وحديقتي من الورود.. وحقولي من البيادر.. وبيتي من الطمأنينة.. والشارع من البهجة.. استبدلوا: بكوفيتي خوذة.. بحصاني دبابة.. بحديقتي خندقاً.. بنخيلي أعمدة كونكريتية.. بأساوري قيوداً.. ب "زهور حسين" "مادونا".. بالقرآن مجلة ستربتيز.. ودماً بمياه الينبوع.. وساندويشة ماكدونالد بخبز أمي.. أطلقوا سراحي من قبضة الخرتيت واعتقلوا الوطن.. ثم أعطوني قلماً ودفتراً لأكتب عن الحرية.. أو تقارير عن الذين يرفضون التحريض: النار على الأكواخ.. والقحط على الحقول.. وأكياس الرمل على الشرفات.. و"ابن طالب" على "ابن الخطاب".. "وأبي ذر الغفاري" على "القديس أوغسطين".. والخنادق على الحدائق.. والسيوف على الرؤوس.. والسيارات المفخخة على الأسواق الشعبية.. والأكفان على مناديل العشق.. والدخان الطائفي على قوس القزح.. والرذيلة على الفضيلة.. واللصوص على الوطن.. و"الأمركة" على "العراقة".. فهل ثمة من يلومني إذا صرخت ملء حنجرتي: أعيدوني إلى زنزانتي وأطلقوا سراح وطني؟ هكذا صرخ "النبيل" ملء حنجرته.. ولكن لا حياة لمن تنادي.. إنها مجرد صرخة في وادي الحزن والأسى.. ولم يبق مجال إلا "للمنبوذين" ليقولوا كلمتهم النابعة من أسفل السلم الاجتماعي.. نسل "القدمين": حيث الحذاء - القندرة - الجزمة - البوت - الصرماية - الجوتي - الكندرة - النعال.. فعندما طار النعال نحو وجه "بوش الابن" انطلق العالم كله يردد أهزوجة "المنبوذين" الذين نطقوا أخيراً بعد صمت طويل.. فكسر صوتهم الحاجز الذي عجز عنه صوت "النبلاء"، فمعذرة أيها اللحن السماوي الرقيق.. إنه زمن "الصرامي".