انفضّ السامر , وانتهى موسم الحج .. بعد أن قضى المؤمنون تفثهم , ووفوا نذورهم , وتطوفوا بالبيت العتيق .. ثم طفقوا قافلين إلى ديارهم , يملؤهم الحبور , ويغشاهم الأمل بأن صاروا مغفوراً لهم , غادر قرابة ملونا حاج الديار المقدسة , بعد أن كانوا قد احتشدوا من كل فج عميق ... في الموعد الذي لا يتغير ... في المكان الذي لا يتبدل ... وفي العموميات التي لا تختلف وشكلوا مشهداً أسطورياً مهيباً قلّ نظيره في الدنيا , مشهد هو الأعظم على الإطلاق على مستوى العالم , يوم تلقفهم صعيد عرفات , وضمتهم جنبات وادي منى , واحتضنتهم عرصات المسجد الحرام . نجح السعوديون وتحت سمع وبصر شاشات التلفزة العالمية والإسلامية والمحلية , جرت مراسم ( الموسم ) السنوي الديني الأبرز والأكثر اثارة , جرت في شفافية مطلقة , وتحت الشمس , وفي نقل اعلامي حي على مدار الساعة , لم يترك شاردة ولا واردة إلا ووثقها .. ونجح السعوديون في استخراج شهادة نجاح جديدة , ممهورة ب " ختم التميز " .. ليقدموها للعالم أجمع وثيقة نجاح ترفع رأس كل سعودي ومسلم .نجاح الحج ليس فقط نجاحا للسعودية وحسب , بل هو شهادة نجاح لكل مسلم – أينما كان - من سواحل أمريكا الجنوبية , الى غابات اندونيسيا , ومن تخوم القارة السمراء إلى صقيع سيبيريا .. واضطلاع السعودية ب " مهمة " الحج ليس بحثاً عن اشادة , أو استدرارا لتصفيق , ولا ركضا وراء هدف مادي ضيق .. ولكنه خدمة واجبة , وشرف عظيم , وأداء لأمانة . هدف واحد اجتهد السعوديون لهدف واحد فقط , وهو ارضاء المولى عز وجل , ولعل الله تعالى قد اطلع على هذه النية " الصافية " فأكرمنا بتيسير المهمة الشاقة تفضلا منه سبحانه وتعالى , فله وحده الشكر والمنة بعد أن عهد إلى قادة هذه البلاد وأهلها خدمة حرميه الشريفين وكعبته الطاهرة . نجاح الحج في حقيقة الامر هو رسالة موثقة وصادقة , فيها كل الاطمئنان للعالم – كل العالم - بأن الانسان السعودي قادر وبمرتبة فائقة النكهة , على ادارة أعظم حشد بشري في العالم , رغم تحدي عاملي : " محدودية المكان , وضيق الزمان " . فصول تتكرر وعلى الرغم من أن موسم الحج لهذا العام 1434ه قد انقضى , الا ان " القصة " لم تنتهِ , ذلك لأن الحج قصة طويلة ثرية , مثيرة , ولا متناهية .. فمنذ عمق التاريخ وهي فصول تتكرر , ومشاهد تتوالى , في نص ثابت , وعلى مسرح واحد , ولكن بوجوه متعددة , وشخوص مختلفة جيلا بعد جيل . ولأن قصة الحج كذلك , فما ذاك إلا لأن بواعث جمة قد توفرت لها , منحتها شحنة باذخة من الثراء الروحي الملتصق بالوجدان , قصة عظيمة , مكتوب لها الخلود والبقاء , إنها تاريخ ثري متمدد على مدى صفحة الزمان كله .. هي حكاية متكررة متجددة في آن معاً , بل إنها القصة التي بدأت ولن تنتهي الا بفناء الحياة نفسها . بداية القصة وهنا لابد أن يثور سؤال بدهي , كيف بدأت قصة الحج ؟ .. والجواب ليس تخميناً ولا فرضياً .. ولكنه من المتن الموثق لسجلات التاريخ , فمن هناك ... من بعيد .... ومن حافة الزمن , ومن رحم الاعماق السحيقة للتاريخ كانت " اللمعة " التي أضاءت هذا الوهج الباهر .. فمن بطاح مهجورة لا كلأ فيها ولا ماء , ولا بشر ولا حياة .. انشق الضوء من تلك البقعة التي باركها الله , وبارك ما حولها . وكانت الارهاصات الاولى لهذه الشعيرة الخالدة , التي حيرت العقول والألباب , بقدرتها العفوية المحضة على تليين القلوب القاسية , وتطويع المشاعر الجافة .. لتنساق سوقاً , وفي شوق عارم لا مثيل له صوب مهوى الافئدة , إلى حيث أم القرى البلد الحرام والكعبة المشرفة , تتكبد المشاق وهي تبكي فرحا , تتعب في وعثاء السفر وهي تتبسم سعادة , تتعرض للموت وهي مشتاقة له في ولع عارم .. فأي رحلة هذه , وأي شوق ومتعة تلك .. يا - ألله ما أعظم أسرار هذه الرحلة الايمانية ؟. دعوة إبراهيم وكان إبراهيم عليه السلام - وبأمر من ربه تعالى - هو الذي اشعل الشرارة الأولى , تلك الشرارة الايمانية المباركة , التي تفجرت شلالاً من الضوء الهادر , الذي ملأ الخافقين , ليظل هو الاعظم على الاطلاق فوق هذا الكوكب .. فقد أمر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد انتهائه من بناء البيت أن يؤذن للناس بالحج ، فقال تعالى : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) الحج/27 .. قال ابن كثير في تفسيرها : أي ناد في الناس داعياً لهم إلى الحج إلى البيت , الذي أمرناك ببنائه .. فذكر أنه قال : يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ .. فقال " ناد وعلينا البلاغ " .. فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على أبي قبيس (جبل قريب من الكعبة) ، وقال : " يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه " .. فيقال : " إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك .. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله. الأدباء والمستشرقون ولقد لفتت قصة الحج العلماء والأدباء والمستشرقين , فكتبوا الكثير مما لا يمكن الاحاطة به هنا .. يقول أحمد بن عبد المحسن العساف في مقال له نشر في مجلة البيان في عدد شهر ذي الحجة عام 1431ه .. ننقل منه بعض المقاطع هنا , يقول : ( وقد ألَّف بعض العلماء والأدباء والبلدانيين والمؤرخين والمستشرقين كتباً عن رحلاتهم إلى الحج، فبعضها كتاب خاصٌّ عن رحلة الحج فقط، وبعضها كتاب رحلة عامَّة ضمَّنها مؤلفها حديثاً عن رحلته إلى الحج والحجاز. ) . ويضيف : (واتسعت خريطة الكتابة عن رحلات الحج حتى شملت مؤلفين من الأندلس والمغرب، ومصر والشَّام، والهند واليابان، وتركيا وآخرين من عدَّة بلاد أوربية طبقاً لجنسية المؤلف أو مكان إقامته، واختلفت أحوال المؤلفين ما بين رحلة شخصية، أو مرافقة لأمير أو ملك، أو على رأس وفد دولة أو أميرٍ لموكب حجِّها، أو ضيفٍ على حكَّام الحجاز، أو صاحب مشروع سياسي كما في كثير من رحلات المستشرقين. وقد يسَّر الله أن انبرى بعض الباحثين و المؤسسات الثَّقافية لخدمة ونشر بعض كتب رحلات الحج، ويبقى الجهد الأعظم في استقصاء جميع ما كتب عن رحلات الحج، ونشره محقَّقا؛ ووضع فهارس كاشفة تعين القارئ على بلوغ مراده، ومعرفة المخطوط منها والمطبوع أو المفقود ). تتبع الرحلات ( وشملت عناية بعض المؤلفين تتَّبع كتب رحلات الحج كما فعل الأستاذ الشَّيخ حمد الجاسر- رحمه الله- في مجلد واحد أسماه: (أشهر رحلات الحج)، واختصر د. محمد بن حسن الشريف أكثر من عشرين كتاباً من كتب رحلات الحج القديمة والحديثة في أربعة مجلدات بعنوان: (المختار من الرّحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النَّبوية)، كما أصدر الأستاذ أحمد محمد محمود كتاباً عنوانه: (رحلات الحج) في ثلاثة أجزاء، وتحدَّث فيه عن جملة من كتب رحلات الحج خلال القرون الثَّلاثة الأخيرة ) . ( وتعدُّ رحلة ابن رشيد السَّبتي من أفضل كتب الرّحلات التي دوَّنها العلماء لما أودعه فيها من متين العلم وأخبار ملاقاة العلماء ومذاكرتهم، وهذه الرّحلة مطبوعة محقَّقة في خمسة مجلدات، وعنوانها: (ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة). ومن الرّحلات المهمة في هذا الباب: رحلة الشَّيخ الشِّنقيطي صاحب أضواء البيان وعنوانها (رحلة الحج إلى بيت الله الحرام)، ورحلة محمد رشيد رضا بعنوان: (رحلة الحجاز)، ومن أفضل الرّحلات المعاصرة التي أملاها الأدباء (مرآة الحرمين) من تأليف اللواء إبراهيم رفعت وكان أميراً على موكب الحج المصري، ورحلة الأمير شكيب أرسلان بعنوان: (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف). لحظة اشراق (ومن الطَّريف أن رحلة الحج التي شرع بها الكاتب المصري محمد حسين هيكل كانت بسبب نصيحة من المسلم المجري عبد الكريم جرمانوس الذي تبدلت حياته للأفضل بعد أن أدَّى فريضة الحج، ومن عظم بركة تلك الرحلة عليه أن وصفها في كتابه عن رحلة الحج بعنوان: (الله أكبر) بأنَّها: "لحظة من لحظات الإشراق". وقد وضع هيكل كتاباً عن رحلته أسماه: (في منزل الوحي) واشتمل على معان إيمانية لم تك معهودةً في كتاباته من قبل )انتهى.ومن الجماليات الباهرة والمبهرة في قصة الحج أن هذا النسك الجليل متخم بالعبر الكبار والدروس العظام , فمن وعاها واستحضرها وتمثلها في حياته فقد أفلح ونجح في أن يكون كيّساً فطناً , وحفيا بان يعظم الله مثوبته ويزيد بصيرته. دروس الحج والواقع أن للحج دروس عظيمة وعبرٌ جليلة ومعان جليلة , تعود آثارها ليس على الفرد الحاج وحسب بل والجماعة والأمة ، يقول محمد بن إبراهيم الحمد في عرض لتلك الفوائد نقتطف منه : أولاً حصول التقوى التي تعد غاية الأمر، وجماع الخير، ووصية الله للأولين والآخرين، والحج فرصة عظمى للتزود من التقوى، قال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) " البقرة : 197". وقال عز وجل: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) "الحج: 32". فأولو الألباب الذين خصهم الله بالنداء لتقواه ، يأخذون من الحج عبرة للتزود من التقوى، فينظرون إلى أصل التشريع الإلهي، ومكانته المهمة في الدين، ويعلمون أن صدق المحبة والعبودية لله لا يكون إلا بتقديم مراد الله على كل مراد . فهذا إبراهيم الخليل – عليه السلام- ابتلاه الله عز وجل بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، الذي ليس له سواه، والذي رزقه الله إياه عند كبر سنه؛ والذي هو أحب محبوب من محبوبات الدنيا. وهذا الأمر من أعظم البلاء، وبه يتحقق الإيمان وتظهر حقيقة الامتحان؛ فالخليل أعطى المسلمين درساً عظيماً للصدق مع الله، وذلك بتقديم مراد الله على مراد النفس مهما غلا وعظم؛ فإنه عليه السلام – بادر إلى التنفيذ- مع شدة عاطفته، وعظيم رحمته ورقته وشفقته- فأفلح، ونجح، وتجاوز هذا البلاء، فرحمه الله، وشل حركة السكين عن حلق ابنه، بعد أن أهوى بها الخليل؛ ففداه الله بذبح عظيم، وجعلها سنة مؤكدة باقية في المسلمين إلى يوم القيامة؛ ليعاملوا الله – عز وجل- معاملة المحب لحبيبه ومعبوده، فيضحوا بمرادات نفوسهم ومحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه. السرّ العظيم فإذا عرف الحجاج هذا المعنى، وأدركوا هذا السر العظيم الذي لأجله شرعت الهدي والأضاحي عادوا يحملون تلك المعاني العظيمة؟، التي تجعلهم لا يتوانون عن تنفيذ شيء من أوامر الله، فلا تمنعهم لذة النوم وشهوة الفراش عن المبادرة إلى القيام إلى صلاة الفجر.ولا يمنعهم حب المال، والحرص على جمعه من ترك الغش، والغبن، والربا، والتطفيف، وإنفاق السلع بالأيمان الكاذبة. ولا يمنعهم حب الشهوات والميل إلى النساء، والطمع في نيل اللّذة المحرمة من غض البصر، ولزوم العفة، وحفظ الفروج؛ إيثاراً لما يحبه الله على ما تحبه نفوسهم، وتنزع إليه طبائعهم، ورغبة في نيل رضا الله وعوضه في الدنيا والآخرة.اما ثاني الفوائد فهو اعتياد الذكر, فالذكر مقصود العبادات الأعظم، والذكر يتجلى غاية التجلي في الحج، فرحلة الحج من أولها إلى آخرها فرصة للدعاء والابتهال إلى الله –عز وجل- إذ يجتمع للحاج من دواعي الإجابة ما لا يجتمع لغيره من شرف الزمان، والمكان ولحال الداعي وتلبسه بتلك الشعيرة العظيمة، ولكثرة المواضع التي يشرع فيه الدعاء، وترجى الإجابة؛ فالطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وعند المشعر الحرام، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى، كل هذه المواضع مواضع دعاء، ومظان للإجابة. ومن الفوائد التعود على انتظار الفرج , فإذا رأى الحاج جموع الحجيج المزدحمة عند الطواف، والسعي، وفي رمي الجمرات –ظن أن تلك الجموع لن تتفرق، وأنه لن يصل إلى مبتغاه من إكمال الطواف، أو السعي أو رمي الجمار، وربما أدركه الضجر، وبلغت به السآمة مبلغها، وربما أضمر في نفسه أنه لن يحج بعد عامه هذا وما هي إلا مدة يسيرة، ثم تنتقل الجموع، ويتيسر أداء المناسك. وهذا درس عظيم، وسر بديع يتعلم منه الحاج عبودية انتظار الفرج، وهي من أجلّ العبوديات، وأفضل القربات؛ فلا ييأس بعد ذلك من روح الله، وقرب فرجه مهما احلولكت الظلمة ، ومهما استبد الألم، ومهما عظم المصاب سواء في حاله أو في حال أمته، بل يكون محسناً ظنه بربه، منتظراً فرجه ولطفه، وقرب خيره- عز وجل- فيجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه، وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل.ومن العبر والفوائد في الحج اكتساب الأخلاق الجميلة حيث الحج ميدان فسيح لمن اراد ذلك؛ فالحاج يتدرب عملياً على الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ من جرّاء ما يلقى الزحام، والتعب، والنصب سواء في الطريق إلى الحج، أو في الطواف، أو في السعي، أو في رمي الجمار، أو في غيرها من المناسك، فيتحمل الحاج ما يلقاه من ذلك؛ لعلمه بأن الحج أيام معدودة، ولخوفه من فساد حجه إذا هو أطلق لنفسه نوازع الشر، ولإدراكه بأن الحجاج ضيوف الرحمن؛ فإكرامهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم دليل على إجلال الله –عز وجل-. فإذا تحمل الحاج تلك المشاق في أيام الحج صار ذلك دافعاً لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة بقية عمره. وهكذا فإن الحاج يتعلم الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وذلك من خلال ما يراه من المواقف النبيلة الرائعة التي تجسّد هذه المعاني؛ فهذا سخيّ يجود بالإنفاق على المساكين، وذاك كريم بخلقه يعفو عمّن أساء إليه، وأخطأ في حقه، وذاك رحيم يعطف على المساكين ويتطلف بهم، وذاك حليم يصبر على ما يلقاه من أذى، وذاك بر بوالده يحمله على عاتقه، وذاك يحوط أمه العجوز بلطفه ورعايته. أضخم المشاريع ومن جانب آخر فإن للمملكة العربية السعودية جهودها الكبيرة في خدمة الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن من الحجاج والعمار والزوار , حيث أنفقت مليارات الريالات لإقامة أضخم مشروعات البنى التحتية والخدمية والرعاية في كل المجالات لخدمة قاصدي الديار المقدسة , بما أشاد به العالم في شرق الارض وغربها وبما لا ينكرها الا جاحد أو مكابر . ولنا عبرة بموسم الحج الاخير 1434ه وبما حققه من نجاح , امام ذلك الحشد البشري الذي قارب الأربعة ملايين إنسان , وكيف كان توفيق الله تعالى لبلادنا في قيادة كل تلك الجحافل البشرية بنجاح مثير , وبالتالي الوصول بالموسم إلى بر الأمان . لا للشعارات وثمة نقطة اخرى مهمة وهي ان من لطف الله بعباده ان اوكل سبحانه وتعالى امر تنظيم وتسيير قصة الحج الى هذه البلاد المباركة , فاصبح الحج عبادة خالصة , ينصرف فيها الحاج الى مناسكه , دون اشغال الموسم بالاتجاهات السياسية .. وتصور لو ان السياسة قد دخلت الحج , فكم من الفوضى سيراها العالم في منى وعرفات , ومحيط الجمرات وحول الكعبة .حيث سيبادر الكل الى رفع ايديولوجيته وحزبيته ومذهبيتة .. وسوف يختلط الحابل بالنابل , ويتنابز الناس بالألقاب , ويتنافسون على الحقير دون الجليل .. وستكون فوضى عارمة لا حدود لها , وربما من غير المستبعد أن تزهق وسط ضجيجها الأنفس البريئة , التي جاءت ملبية ومحرمة .ولكن من كرم المولى عز وجل ان منح الله قادة هذه البلاد عقولا كبيرة , فحسموا الأمر مبكرا , استجابة لنداء الله تعالى في أن يكون الموسم عبادة خالصة , خالية من الشعارات القومية , والتحزبات المتلونة , والمضاربات السياسية .. فعم الهدوء شعيرة الحج , وانصرف المؤمنون الى عبادتهم , وتفرغوا لمناجاة ربهم على الوجه الصحيح , تاركين الدنيا وزخرفها وراء ظهورهم , ومتماهين مع رمزية ما يرتدونه من ملابس بيضاء بسيطة , إمعاناً في التجرد لله , بعيد عن صخب الدنيا الزائل , فكان الخير كل الخير . خطاب الملك خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ألقى كلمته السنوية في الموسم , ألقاها نيابة عنه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع , في حشد من الشخصيات الإسلامية ورؤساء بعثات الحج بقصر منى , فكانت كلمة جامعة مانعة , حيث أكد على وحدة الصف ونبذ الكراهية والعنف وتبيان أن الإسلام دين الصفاءِ والنقاءِ والوسطية . قال الملك عبدالله : " إننا أمة ولله الحمد والمنة عزيزة بعقيدتها ما دمنا على قلب رجل واحد فهمومنا واحدة وآمالنا مشتركة ولا عز ولا تمكين إلاّ في التمسك بعقيدتنا واستنهاض كل القيم الأخلاقية التي أمر بها رب العزة والجلال فكان الإسلام ولا زال بوسطيته واعتداله وتسامحه ووضوحه فيما لا يمس العقيدة النقية طريقنا إلى فهم الآخر وحواره وطريقنا للفهم الحضاري لحرية الأديان والثقافات والقناعات وعدم الإكراه عليها , يقول الحق تعالى ( لا إكراهَ في الدين قد تبين الرشدُ من الغي ) . ومن هذا المنطلق تم إنشاء مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات ليكون مدخلاً بين المسلمين وبين أتباع الأديان والثقافات الأخرى , لنقول للعالم إننا نمد أيدينا محترمين جميع الأديان السماوية في مبادرة تنبذ الكراهية والعنف وتبين للعالم أن الإسلام دين الصفاءِ والنقاءِ والوسطية " .