عمل الشاعر المصري شريف الشافعي الأخير ربما يندر ان يكون له ما يماثله في العربية فهو يفتقد أزمنة وحلما يبدو انه انقرض ويستعمل في الوقت نفسه لغة شعرية هي مزيج من زمن الأحلام "الميكانيكية" ومن الزمن المنقرض نفسه. انه عمل يحمل واقعا ونقيضه في الوقت نفسه.. فهو يستعمل لغة زمن عالم الانترنت ومصطلحاته ويبحث من خلالها عما يبدو عالما دفعه الى ما يشبه النسيان اشتداد قوة العالم الأول وما يظهر من سيطرته البعيدة المدى والاغوار على مخيلة أهل "القرية الكونية" وحتى على لغتها. ولعلنا قبل الحديث عن محتوى مجموعة شريف الشافعي هذه نستطيع ان نسلط عليها ضوءا "بليغا" كاشفا الى حد بعيد من خلال الحديث عن عنوانها وما حمله غلافها. الغلاف عمل فني معبر جدا قد يختصر كثيرا مما تحمله القصائد. بعد ذكر اسم الشاعر شريف الشافعي الى اليمين الأعلى للكتاب نقرأ الى اليسار كلاما هو وصف لسلسلة يبدو انها مقبلة. الكلام هو "الأعمال الكاملة لانسان آلي (1) وبعد ذلك كلمة "شعر". ومن ثم يأتي العنوان الرئيسي وهو "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" وبعده عنوان آخر يبدو ثانويا لكنه أكثر "بلاغة" حيث يقول "200 محاولة عنكبوتية لاصطياد كائن منقرض". الذين قد يشطح بهم الخيال ازاء كلمة "عنكبوتية" متوهمين هذا التعبير تصويرا خياليا مرعبا ينقل واقعا او حالة نفسية سرعان ما يكتشفون ان ذلك المصطلح المعتمد عربيا في عالم الانترنت لترجمة كلمة " ويب" الانجليزية التي يقول معجم "المورد الأكبر" لمنير البعلبكي ود. رمزي البعلبكي ان من بين معانيها المتعددة "شبكة (طرق أو أراضي أو علاقات عامة أو راديو وتلفزيون أو اتصالات دولية على الانترنت..الخ). أما القسم الأكبر من صفحة الغلاف وهو من نتاج باترك طربيه فهو صورة ليد "بشرية" اصطناعية تبدو بشرية لكن أوردتها وشرايينها وأعصابها وشروشها.. تتألف من أسلاك معدنية عديدة وأصابعها السوداء ترفع بالابهام والسبابة والوسطى كرة ملونة متوهجة هي الكرة الارضية. وفي أسفل الغُلاف صورة مأخوذة عن صفحة البحث في "ياهو" وقد جاء الجواب عن البحث المتقدم كما يلي "نتائج البحث.. لم نجد اي نتائج (لتعبير) نيرمانا". ننتقل الى "الداخل" اي الى قصائد الكتاب فنجد اننا ما زلنا في عالم شبكة الانترنت فكل قصيدة تحمل عنوانا هو "البحث.." وقد اعطي رقما معينا ابتداء بالرقم 1 عوضا عن القصيدة الاولى وهكذا دواليك. ولم ينته الامر بعد فالطباعة والحروف هي ايضا من عمل الكمبيوتر. ولا بد من ان يذكر هنا ان شعراء بعد منتصف ستينات القرن العشرين المنصرم -ومنهم بل لعله "وحيدهم" اللبناني عادل فاخوري- كتبوا ما اسموه "القصيدة الالكترونية" وحاولوا فيها محاكاة أجواء منها أجواء عالم الفضاء الخارجي وعالم العلوم الفيزيائية. وقبل ان نسأل ما المقصود باسم نيرمانا ويذهب بنا الخيال في اتجاهات شتى منها ان نتصور ان المقصود هو نيرفانا أو عالم التسامي أو عالم الحلم المنقرض فلا بد من ان نلاحظ ان الشاعر استعمل الاسمين واكثر منهما بكثير لمدلول واحد تحول الى مستحيل جديد يضاف الى الغول والعنقاء وغيرهما. والشافعي في شعره ساخر بمرارة حينا وباستهزاء حينا اخر. لكننا ربما وجدنا بين هذا وذاك خيطا دائما من الالم والخيبة والبحث عن زمن ضائع وسط ما يبدو غرائبيا أو حتى موحيا بانه دون اي معنى محدد. في البحث رقم 2 نقرأ "سألتها من انت../ قالت../ انا انا/ سألتني من انت../ قلت انا انت/.. التهمت الامواج نيرمانا فصاحت بي../ الزم شقتك/ واغلق محبس الماء بسرعة." وفي قصيدة البحث رقم 3 وقبل ان يعدد الاسماء كما اسلفنا نقرأ " مثلما تحضرين بسهولة في ضميري/ الذي لا محل له من الاعراب/ على ظهر احد الافيال المسالمة/ تتسربين ايضا في مسام جلدي المتشقق/ تشربك ذراتي المترابطة/ المتعطشة الى التحلل/ في الجير الحي." وبعد هذه المقدمة التي يحتشد فيها العلمي و"اللغوي" بصورة موانع تقف في وجه الحب والحلم نصل مع الشاعر الى أسماء "نيرمانا" المتعددة وقد كتبت بالعربية ثم باللاتينية كما طلبها على الانترنت. يقول داخلا في عمق تحركات الشبكة "تمشطين شعرك المجعد أمامي/ في حين اضغط بهدوء على لوحة مفاتيح الكمبيوتر/ اكتب حروف اسمك في محرك " ياهو" نيرمانا.../ نيرما.../ نيرمينا.../ نيتا.../ نيرمالا.../ نيرفانا .../ نيرفا.../ ورينا.../ نوريتا.../ ناريمانا.../ نيرمينا.../ نون .../ نونا.../ ن.../ تجيبني الشاشة بابتسامة كمقذوفات السفن/ لها جناحان وذيل/ الا انها غير قادرة على الطيران..." ما الذي يقوله شريف الشافعي هنا؟.. تراه يقول انه لم يعد هناك مجال للأحلام بجميع انواعها ومسمياتها.. ام تراه يقول عكس ذلك لكننا لم ننتبه الى الامر.. ولعل في هذا الغموض نفسه جوابا مقصودا. لكنه في البحث الخامس مثلا يصبح اكثر "ايضاحا "او هذا ما يتراءى للقارىء. كأننا في عالم يستند الى "زرع الاحلام" بطريقة اصطناعية. يقول "لست بحاجة الى ارتياد الفضاء/ بعد ان امتلكت اكثر من الف فضائية/ في حجرة نومي/ ربما هذه الفضائيات هي التي امتلكتني واسرت ادميتي بصورها المتلاحقة/ لا ازال بحاجة الى ارتياد نونا/ والغوص في انسجتها ببذلة الفضاء/ بعد فشل الطبق والديكودر/ في التعامل مع اشاراتها القريبة والقوية." ولعل هناك بعد الموت "عودة" من نوع ما. ففي البحث رقم 181 يقول شريف الشافعي "عندما تكون الحقيقة غبية/ يتعلق الانسان بحبل الغباء/ كي لا يصدقها/ "لذلك/ عندما وزعت نيرمانا أشلاءها/ على جميع دول العالم/ تعلقت بأسطورة ايزيس وأوزيريس/ ومازلت انتظر يوما/ الملم فيه أجزاء فاتنتي المبعثرة/ وأركّب جسدها من جديد." ترى هل يقول شريف الشافعي كل ما نظن اننا فهمناه او بعضه.. أم انه بعيد عن كل ذلك وان القارىء نفسه وقع أسيرا أو ضحية بحث عن " نيرمانا" أُخرى في هذه القصائد.