ترى الناس في مشاهد الجنائز وعرصات المقابر يقفون مشدوهين مبهورين لا لوداع أحبابهم الراحلين وحسب، ولكنهم في تلك اللحظات يتيقنون أن الأمر برمته لا يعدو سوى مسألة وقت محدود وإن طال، وأنهم يوماً ما في ساعة ما سيكونون في ذلك الموقف الرهيب مع تغيير كبير إذ إنهم سيحتلون مقام الراحل المودَّع لا الباكي المشيع! والناس في تجرع غصص الموت وويلاته درجات وطبقات، فمنهم من ألف الموت وألفه الموت، فلم يعد في نظره ذلك الحدث الغريب الذي يهيج الحزن ويعصر الفؤاد ويستمطر الدمعات، ككثير من المشتغلين بدفن الموتى وحفر القبور, ولذا، فليس بالعجيب المستنكر أنك حين تمر بمساكن أولئك النفر التي تلاصق القبور تجد صوتي التلفاز والمذياع، وهما يصدعان بألحان المعازف وأغاني الحب والفرح، فكما قيل: كثرة الإمساس تقتل الإحساس أو منهم من ينزل به خبر موت قريبه نزول الصاعقة على مرج أخضر فتحيله حطاماً وركاماً، وربما عانى من تبعات الموت أكثر مما عاناه الميت نفسه، فقد قاسى الميت سكرات النزع للحظات أو ساعات غير أن المخلف من بعده يعاني من رحيله المؤلم الموجع شهوراً وأعواماً. ومنهم من يتغلب بصبره وإيمانه على ذلك الموقف ويجتازه بأقل الخسائر، غير أنه لتقدم العمر به على أقرانه وكثرة أحبابه وخلانه بات يشهد سهام المنايا وهي تتخطف من حوله تاركة أياه ليعاني أمراً يعجز الصبر عن حمله، فمع رحيل كل واحد منهم ترحل قطعة من تلك الكبد المفتتة بتتابع الآلام وتعاقب الأيام, وما بعد رحيل الخلان وفراق الأحباب سوى الوحدة القاتلة ببطء، وذلك أمر ربما كان أقسى من الموت نفسه! ومنهم من لقي من الحياة عنتاً وبؤساً وقاسى فيها ذلاً وهواناً فلم يعرف من الدنيا غير ضرائها ولأوائها وبأسائها، فلم تسفر له إلا عن وجهها الكالح الدميم، إذ تمر به الليالي مرورها بالسجين المثقل بالقيود العاثر بالأغلال، فلا غرو حينئذٍ أن يتمثل الموت في عينيه في صورة المنقذ المخلص الذي يتلكأ، رغم ذلك الشوق كله في المجيء فهو ينشد قول أبي الطيب: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا ولما كان هذا الموقف التشاؤمي من الحياة وارداً على الأحوال الإنسانية المتعددة، فقد جاء التوجيه النبوي الشريف بالنهي عن تمني الإنسان الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فليقل «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي».