هل يمكن القول إن ما تبقى من زمن السيادة النسبية قد انتهى، بعد أن أسقطت معاهدة وستفاليا التاريخية حول سيادة الدول المطلقة على أرضها وحدودها، مع صعود ظاهرة توحش العولمة الإمبريالية في قطبها الواحدي، أو الآحادي، وأن سيادة الشعوب المستضعفة باتت تتناقض شيئا فشيئا إلى أن تختفي نهائيا؟ سؤال ثقيل على الفكر والوجدان، لكن إطلاقه في هذه المرحلة، وفي مناخ البقية الباقية من السيادة الشكلية لهذه الشعوب بات ضروريا وله ما يبرره ويدعو إلى إطالة التفكير فيه، لا بحثا عن جواب مناسب وإنما للفت الانتباه إلى الأسباب والعوامل الموضوعية التي أدت وتؤدي إلى تناقض السيادة الوطنية وإلى الأخطاء والخطايا التي يرتكبها بعض أبناء هذه الشعوب ممن قادتهم أنانيتهم ومحاولة استئثارهم بمظاهر السلطة والانفراد بالحكم، وما نتج عن ذلك من إضعاف الشعوب وتحطيم قدراتها على المواجهة والاحتفاظ بالحد الأدنى من السيادة الوطنية، والاستقلال في اتخاذ القرار. لقد بدأت النخب السياسية في العالم الثالث وفي الوطن العربي خاصة تدرك خطورة ذوبان السيادة الوطنية والدور الذي لعبته العولمة في تشجيع النمطية الاستهلاكية وما حملته معها من انتشار نمطية الخضوع السياسي والتبعية للأقوى اقتصاديا وثقافيا، ولم يعد موضوع هذه الخطورة خافيا على أحد بعد أن انتقلنا من حالة التبعية إلى حالة التهميش الذي قد يصل بنا إلى حد الخروج من التاريخ كله، وبعد أن دخلت الشعوب الفقيرة في حالة ارتهان لسيادتها، والفقر هنا ليس الفقر في المال بل الفقر في الوعي والفقر في التعليم، وفي الصحة، ووصول الأمر إلى حد فقدان الإحساس والشعور بأهمية سيادة الأوطان، إذ ما أكثر الشعوب التي افتقدت سيادتها وهي تتمتع بأكثر مما تحلم به من ثروات، ولكنها كانت قد افتقدت إلى ما هو أهم من المال، وهو المعرفة التي تجعلها تدرك أهمية الندية والمساواة والسيادة، والاستقلال في العلاقات الدولية، وعدم الوقوع في شراك القوى المتحكمة في مصير هذا العالم. ومما يضاعف الخوف من ضياع السيادة ولأي بلد أن هذه القوى المتحكمة باتت تعرف جيدا كيف تصل إلى أهدافها من خلال زرع المزيد من الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، تحت مسميات طائفية ومذهبية وعرقية حتى في الشعوب الخالية من هذه المكونات، ثم أنها تعرف أيضا كيف تدفع بعدد يزيد أو يقل من مثقفي هذا البلد أو ذاك إلى أن يتصدروا الدعوة إلى التفتيت والتجزئة، علما بأن من يسعى إلى تفتيت وطنه الصغير وتجزئته لن يهتم إطلاقا بأي معنى لسيادة هذا الوطن وكرامته واستقلاله، وأنه يكون دائما في حالة الجاهزية للتفريط بالوطن كله لأنه لم يعد يعني بالنسبة له شيئا، وما يهم أن تنجح حملته للتفتيت والاحتماء بأية قوة تضمن له نجاح هذا الهدف الحقير. والنماذج المنجزة أو التي في طريقها إلى الإنجاز في هذا الصدد تجل عن الحصر سواء في الوطن العربي أو في غيره من الأوطان المنكوبة بأبنائها قبل أعدائها. ولا أخفي أن جزءًا من الأحلام التي رافقت ثورات الربيع العربي كان يتمحور حول قدرة هذه الثورات على إعادة الوئام الوطني إلى مكونات الأمة الواحدة وإلى إعادة مشاعر التوحد والتفاهم بين أبناء القطر الواحد، فقد انخرط في صفوف هذه الثورات ممثلون عن كل هذه المكونات والشرائح وتلاشت في مناخ الوهج الثوري كل التطلعات المنحرفة، وكانت المطالبة بإنشاء وقيام الدولة المدنية الحديثة ذات السيادة المطلقة والقائمة على العدل والحرية والمواطنة المتساوية هو هدف الجميع والمطلب الأساس، وتلاشت لفترة غير قصيرة شعارات التفتت والاستدراج إلى مستنقع التجزئة، لكن ما كاد وهج الثورة يخفت بعض الشيء حتى عادت الدعوات النكراء إلى الظهور، وعاد معها الخوف على الوحدة وعلى السيادة التي نشطت القوى الخارجية ذات المصالح على تشجيع العبث بمقوماتها، والعمل ليل نهار على إثبات أن السيادة قيد، وأنها تتنافى مع الانفتاح وما يقتضيه من تنازلات تمكن للمستثمرين من لصوص الشركات متعددة الجنسيات في أن يمتصوا دماء الشعوب ويستنزفوا ثرواتها ويعملوا بنهم شديد على افقار أبنائها والنماذج أوسع من أن تحدد أو تحصر.