في كتابه (صور وخواطر) يذكر الشيخ علي الطنطاوي مقارنة بين الشقاوة والسعادة فيقول: يحمل الرجلان المتكافئان الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ ويضحك هذا ويغنِّي. ويمرض الرجلان المتعادلان المرض الواحد، فيتشاءم هذا، ويخاف، ويتصور الموت، فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه. ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكرَه، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُه.ويقول: بسمارك رجل الدم والحديد، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، يوقد الدخينة من الدخينة فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره. وكان يومًا في حرب، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتدُّ عليه فيها الضيق ويعظم الهمُّ. وبقي أسبوعًا كاملا من غير دخان، فلما رأى ذلك ترك التدخين، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة. ويتابع الطنطاوي: إنكم أغنياء، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها. يُصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع ضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛ فلماذا لم يرها لما كان صحيحًا بيضاء مشرقة؟ ويُحْمَى عن الطعام ويُمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟ لماذا لا تعرفون النِّعم إلا عند فقدها؟ لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصباه؟ لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي، أو مُتَّشحةً بضباب المستقبل؟ كلٌّ يبكي ماضيه، ويحنُّ إليه؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا؟ إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟ من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟ لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا؟ أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟ والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون، ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكِّن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟ إن الصحة والوقت والعقل، كلُّ ذلك مال، وكلُّ ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد. وملاك الأمر كلِّه ورأسه الإيمان، الإيمان يُشبع الجائع، ويُدفئ المقرور، ويُغني الفقير، ويُسَلِّي المحزون، ويُقوِّي الضعيف، ويُسَخِّي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أُنسًا، ومن خيبته نُجحًا. وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلَّ مُرَتَّبك، وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقلُّ عنك فهمًا وعلمًا، وحسبًا ونسبًا.( يتبع) كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز [email protected]