قال محدثي: عجباً لأمركم – معشرَ المسلمين – تقيمون القصاص ، فتجعلون المصاب مصابَين! لكن من قتل غير متعمد تأخذون منه ديَّة، قد تبقيه مَديناً طول حياته، فهل الحياة عندكم لا قيمة لها، أم ثمينة جداً؟. قلت: سبقك بهذا أبو العلاء المعري عندما علم أن ديَّة اليد خمسمائة دينار من العَسْجَد (الذهب)، وهي نفسها تُقطع إذا سَرقت ربع دينار، فقال: يد بخمس مئين عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ما بالها قُطعت في ربع دينارِ؟ فكان الجواب: عزُّ الأمانة أغلاها، وأرخصها ذلُّ الخيانة، فافهم حكمة الباري فحكمة المولى سبحانه أن شرع القصاص للإبقاء على الحياة (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). ومنذ أن عادت ولاية تكساس الأمريكية إلى تطبيق حكم الإعدام، طبقت بين عشرة وعشرين حالة إعدام في السنة، فانخفض عدد جرائم القتل فيها بمعدل بين خمس وعشر جرائم شهريا. قال محدثي: قد فهمت، لكن ما بالكم تعرضون علينا سيرة نبيكم لتقولوا كان رحيماً شفوقاً، ثم نراه يجيش الجيوش؟ قلت: نعم، في سيرته - صلى الله عليه وسلم - كل المواقف. فيها العفو والصفح، وفيها إقامة الحدود. فيها الكف عن القتال، وفيها الجهاد. ولكل ذلك وقته. ومازالت الدول حتى الآن فيها كل أنواع التشريعات. فقانون الجوائز والمكافآت يختلف عن قانون العقوبات، وقوانين الحياة المدنية تختلف عن قانون الحرب. ونبينا صلى الله عليه وسلم كان نبياً ورسولاً، جاء بالعقيدة كما جاء بالتشريع، وحياته كانت التطبيق العملي لكليهما، ودينه خاتم الأديان، وقد أُرسل للناس كافة، فكان لابد أن يكون دينه شاملاً لكل أنواع التشريعات. ومع كل هذا فإنه عندما انتصر على من ظلموه وخططوا لقتله وأخرجوه من بلده، قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" في حين مازالت قوانين الدول حتى اليوم تحاسب أمثالهم كمجرمي حرب أو تبقيهم أسرى. سألني: وهل أصحابه فعلوا مثله؟ قلت: الحق العام غير الحق الخاص. وإلى يومنا هذا يصدر العفو عن الحق العام، لكن من يملك أن يعفو عن الحق الخاص؟ وقد قال الفقهاء: حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحَّة. والمشاحة مشتقة من الشح، وهو البخل، وتُطلق على حرص النفس على الحقوق وقلّة التسامح فيها، رغم الترغيب في العفو. قال: ألم يهدر رسولكم دماء بعض الناس؟ قلت: نعم، لقد أهدر دماء أفراد قلائل بالغوا في الخصومة، ومع ذلك فإنه عفا عنهم عندما جاؤوا إليه معتذرين. وقصة الشاعر كعب بن زهير مثال على ذلك، فقد ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تائباً وألقى أمامه قصيدته المشهورة (بانت سعاد) التي سُميت البُردة لأن الرسول ألقى عليه بُردته بعد أن مدحه فيها ومدح دينه وصحبه، وفيها يقول: أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ