يتفق اغلب أساتذة العلوم السياسية على أن النظام العالمي بشكله الحالي في العلاقات بين الدول تشكل بعد "معاهدة وستفاليا" لعام 1648 (Peace of Westphalia) وهي المعاهدة التي عقدتها الدول العظمى في حينه لإنهاء حرب الثلاثين عاما (1618- 1648) في اوروبا والتي كانت بمثابة حرب عالمية جمعت في أطرافها كل القوى العظمى في حينه بما فيها الامبراطورية العثمانية، وكان ابرز ما قدمته هذه المعاهدة هو تأسيسها لمفهوم الدولة الحديثة بما يتضمنه الامر من رسم حدود جغرافية واضحة لكل دولة بعدما كانت الامبراطوريات قبل ذلك تتداخل حدودها ويشكل الصراع فيما بينها أساسا للعلاقات، معاهدة وستفاليا قدمت ثلاثة مفاهيم او مبادئ في غاية الاهمية وهي المفاهيم التي لا تزال قائمة الى اليوم وتشكل اساس العلاقات بين الدول وهي: 1- ان كل دولة لها سيادة كاملة ومطلقة على أراضيها وحدودها وشؤونها. 2- ان الدول متساوية فيما بينها. 3- انه لا يحق لأية دولة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى او ان تنتهك سيادتها. مفهوم السيادة (Sovereignty) احد اهم المفاهيم في العلوم السياسية، واذكر أن اول درس لي في الجامعة في اول مادة حول اساسيات العلوم السياسية كان حول المصطلحات الرئيسية وفي حينها قال لنا أستاذنا إن مصطلحي "السيادة" و"الشرعية" (Legitmacy) سوف يطاردانا مثل ظلنا، وهذان المصطلحان يشكلان احدى اكثر المفاهيم إشكالية في حقل العلوم السياسية وتأخذ هذه الإشكالية اليوم بعدا جديدا نتيجة "الربيع العربي" وما ابرزه وما أعاد إنتاجه من تحديات فكرية سياسية في المقام الاول. ان التقدم التاريخي الذي أحرزته معاهدة وستفاليا فيما يخص العلاقات بين الدول وفي الفكر السياسي عموما دعت البعض تاريخيا لربط مصطلح السيادة بها فيما يشار له "بالسيادة الوستفالية" (Westphalian Sovereignty) على ان مصطلح "السيادة الوستفالية" يعود اليوم للاستخدام كإشارة لمفهوم السيادة الصلبة كما يتم تعريفها في مقابل المفهوم النقيض والحديث للسيادة الذي لا يزال في طور التشكل، فمفهوم السيادة شهد في الآونة الاخيرة الكثير من الجدال والنقاش والتطور وهو الامر الذي يعود لعدة اسباب ربما ابرزها: 1- ما فرضته العولمة من متغيرات سياسية دولية القت بظلالها على علاقات الدول فالعالم اصبح قرية كونية جميع أطرافها متشابكة في بعضها البعض. 2- بروز التجمعات الدولية وما طرحته من مفاهيم جديدة حول التعاون فيما بين الدول. 3- المسألة الأهم والتي شهدنا لها مثالا في الربيع العربي وهي حالات التدخل الانساني في الدول الأخرى. ويمكن بصورة عامة إعطاء بعض الأمثلة على إشكالية موضوع السيادة انطلاقا من الأسباب الثلاثة الواردة: اولا: اذا كان مفهوم السيادة السياسية لا يزال متجذرا في النظام العالمي الا أنه لم يعد بالإمكان الحديث عن مفهوم السيادة الاقتصادية مثلا، فترابط الاقتصاد العالمي ببعضه جعل مسألة السيادة الاقتصادية أمرا صعبا، وقضية رفع سقف الديون الامريكية مؤخراً تقدم مثال بارز فرغم ان مسألة رفع سقف الديون الامريكية قضية شأن داخلي بامتياز الا أن كون تأثيراتها وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي برمته جعلتها مسألة ذات طابع دولي، الى الحد الذي جعل البعض يطرح فكرة ان مثل هذا القرار الذي كان يناقشه الكونجرس الامريكي ويجعله جزءاً من صراع الاحزاب لا يجب ان يترك لأمريكا وحدها تحدده بناء على معطياتها الداخلية فقط، ونفس الجدال يدور في المقابل حول النفط الذي تخزنه اراضينا مثلا نظرا لكونه شريان الحضارة الحديثة. ثانيا: منذ انتهاء الحرب العالمية تسيد توجه التعاون الدولي (international cooperation) مشهد العلاقات بين الدول كما هي فكرة انشاء الاممالمتحدة على سبيل المثال، إلا ان التطور الذي شهده هذا التوجه وخاصة مع النجاح النسبي للاتحاد الاوروبي بدأ في تقويض مفهوم السيادة القديم، فالاتحاد الاوروبي قائم على فكرة ان تتخلى الدول الاعضاء عن جزء من سيادتها في مقابل "السيادة الجماعية" للمنظمة الجامعة لهم، وهذه الفكرة تمثل عصب اي تجمع او تعاون بين الدول في الساحة العالمية، ميثاق جامعة الدول العربية على سبيل المثال ينص على احتفاظ كل دولة عربية بسيادتها طبقا للفهم الوستفالي، في المقابل فإن الاتحاد الاوروبي يعد الاكثر تقدماً في هذا المجال رغم ان معاهداته لا تزال تمنح الدول الاعضاء الكثير من السيادة إلا أنها أيضاً نزعت جزءاً في مقابل السيادة الجماعية للاتحاد ككل وكانت آخر الخطوات معاهدة لشبونة لعام 2007 (treaty of Lisbon) والتي وسعت من صلاحيات الاتحاد وسيادته. ثالثا: أصبح الحديث عن سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية في العصر الحديث أمراً مستحيلاً في ظل أمثلة بعض الاحداث مثل كوسوفو وليبيا مؤخرا، فرغم ان التدخل الدولي في ليبيا تم تحت بند "مسؤولية حماية المدنيين" (Responsibility to Protect) في الاممالمتحدة إلا أنه تدخل فتح باباً كبيراً من الجدال لا يتوقع ان ينتهي قريباً وخاصة في حقلي العلوم السياسية والقانون الدولي وبالأخص فيما يتعلق بحدود هذه التدخلات، فبعيدا عن عدالة قضية ليبيا والمآسي التي واجهها الليبيون فإن معضلة القانونيين تمثلت في حقيقة ان دعم الناتو اندرج تحت باب مساندة طرف على طرف في نزاع اهلي، فهذا الدعم لم يتوقف عند الحماية بل تعدى لتغليب شوكة الثوار وإيصالهم للحكم وهو في المفهوم الوستفالي للسيادة يعد تدخلا مباشرا في شؤون داخلية لدولة اخرى، فهو من هذا المنطلق يعد قلباً لنظام حكم من قوة خارجي، ولأن قضية ليبيا كان لها بعد انساني يتطلب التدخل عادت قضية السيادة لواجهة النقاش والجدال. من هذا المنطلق يمكن استشعار توجه النظام الدولي لما يمكن تسميته "عالم ما بعد السيادة" وهو عالم لا يزال في طور التشكل، وبالتالي تطرح عدة أسئلة نفسها على ساحتنا السياسية والفكرية العربية عموما والسعودية خصوصا؛ لعل اهمها كيف ستتشكل مواقفنا وتوجهاتنا السياسية فيما يخص هذه المسألة؟ وكيف ستتعامل معها؟ فالانغلاق او الانكفاء على الذات لم يعد خياراً، ان التحديات السياسية والقانونية التي يطرحها "عالم ما بعد السيادة" متعددة ومتشعبة سواء على الصعيد الداخلي او الاقليمي العربي او حتى الدولي وهي تحديات تتطلب منا في المقام الاول اطلاق نقاش داخلي حر وجريء حول المسألة، وهو اذا كان نقاشا فكريا أكاديمياً بامتياز إلا انه يظل نقاشاً يجب ان يطلق شرارتها الاولى اصحاب السيادة قبل الجميع.