لوقع التقاعد في نفوس الكثير من الناس صدى وتأثير ملحوظ، فالبعض منهم يضع لسن التقاعد هموماً وربما يرونها أهوالاً تنذر بقرب حدوث المخاوف التي يعتقدون أنها نذير أو إشعار ببلوغ الأجل وليس ترك العمل فقط والتقاعد .. أو أنه ربما يكون عرضة للكثير من الأمراض والأوجاع التي ربما لم يكن يحس بها عندما كان على رأس العمل ،أو ربما كان يحس بها لكنه سرعان ما يتناساها بسبب انشغاله بزحمة العمل والدوام ومواساة زملائه ورؤسائه له.. هذا إلى جانب وقت الفراغ الكبير الذي أدخله فيه التقاعد ولم يتعوده سوى تلك العطلة الأسبوعية التي كان يقضيها وتنقضي عليه بسرعة وبعض الإجازات الأخرى التي تعقبها العودة للدوام والمواظبة عليه ،إلى جانب الهموم الأخرى التي يحس بها بعد بلوغه سن التقاعد .. وأذكر أنني قرأت عن برنامج تدريبي للذين هم على أبواب التقاعد بعنوان "الاستثمار في التقاعد" وهذا البرنامج هو عبارة عن دورة تدريبية تثقيفية تعد الموظف بعد إحالته للتقاعد لتقبل الحياة الاجتماعية باستعداد ونشاط وفعالية والمشاركة في الحياة بصورة أكثر إيجابية لعكس خبراته وإنجازاته التي قضاها خلال سنوات عمله ، للأجيال التالية وأنه إنسان مهم صاحب خبرة كبيرة .. وذلك على اختلاف مهنهم سواء كان معلماً أو طبيباً أو مهندساً أو إدارياً أو طياراً أو ... الخ من الوظائف التي أقضت بقضها وقضيضها، وبسنينها وسنواتها المتسارعة على عقود عمره الزاهر. ولعل تلك الدورة وهي بذلك المفهوم الجميل يمكن أن تعيد الثقة في المتقاعد بأنه شخص مهم ومؤثر بل تاريخ ومرجع فإذا تحدث فهو من واقع خبراته المعاشة عبر عقود من العمل . وبهذا يمكن أن يستأنف حياته التقاعدية المثمرة ليسهم في المشاركة في أنشطة المجتمع وتوجيه ومساعدة الأجيال وغيرهم لاكتساب المهارات والخبرات في كثير من ميادين الحياة .. وهذا هو المفهوم والمنطلق الذي نراه ونسمع عنه في كثير من شعوب وبلدان العالم الأخرى المتقدمة الذين عبروا بأنهم أكثر سعادة ببلوغهم سن التقاعد لكي يكملوا مشاريع وأهدافاً كان وقت العمل ومصلحته لا يبقيان لهم مساحة زمنية كافية لإنجازها،لكنهم الآن يمكنهم أن ينجزوا ويحققوا الكثير ولذلك فهم يعتبرون أنفسهم (سعداء التقاعد). لقد قرأت حديثاً كتاباً بعنوان (من كل بحر قطرة ) وهو يعتبر نموذجاً رائعاً للاستثمار في التقاعد ، قام صاحبه بتأليفه وجمع فيه ألواناً وجوانب من الدين والعلم والأدب والطرفة وذلك بعد بلوغه سن التقاعد .. ولقد كان مؤلفه الشيخ (عبد الكريم أحمد منصور) يحفظه الله أستاذاً في مدارس الفلاح بجدة لأربعة عقود من الزمن،تلك المنارة العلمية الكبيرة وتخرجت على يديه أجيال عديدة .. وبإصداره بعد سن التقاعد مثل هذا الكتاب وضع لمسات وإضاءات مشرفة في حياته التقاعدية لتستفيد منه الأجيال ولم يكتف أو يقنع فقط بما قاله شوقي في أمثاله المعلمين : أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي ...........يبني وينشئُ أنفساً وعقولا ؟ والحقيقة أنه في عالمنا العربي نماذج كثيرة طيبة ممن استثمروا في التقاعد فألفوا مؤلفات وانشغلوا بأعمال خاصة واجتماعية كلها أضافت لهم حصيلة إلى محصلتهم العملية ونجاحاً في تقبل الحياة المعاشية الجديدة .. ويصعب المجال لحصرهم لذلك أدعو القارئ الكريم إلى النظر بإيجابية لسن التقاعد مستقبلاً ، وأنه مساحة كافية لأن يستثمر طاقته وخبرته ليحقق أهدافاً في مرمى التقاعد وأن يجعل من كل قطرة علم تعلمها وخبرة اكتسبها بحرا.. والله ولي التوفيق. [email protected]