يبدو أن بعض أبناء جدة الكرام قد شمروا عن سواعدهم مؤخرا ينفضون الغبار عن ماضي مدينتهم القريب والأبعد وما قبله بهدف توثيق مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والتاريخية التي كان يعيشها آباؤهم وأجدادهم، كل ذلك بجهود ذاتية مطلقة يستحقون معها التحية والامتنان. ولقد سعدت خلال الأيام الأخيرة بتسلم هديتين ثمينتين لإصدارين جداويين جديدين - فما أن فرغت من متعة قراءة العمل القصصي البديع الذي أتحفني به الأخ الأستاذ عبدالوهاب أبو زنادة حتى تفضل أخي المؤرخ البارع الدكتور عدنان عبدالبديع اليافي بإهدائي مؤلفه القيم (جدة في شذرات الغزاوي) الذي ملأ به فراغاً كان لا بد لمثله ان يتصدى له في ظل الحاجة الملحة بأن لا تتخلف العروس عن شقيقتها مكةالمكرمةوالطائف باعتبار أنه سبق لنادي مكة الأدبي أن أمتعنا بإصداره الهام (مكة في شذرات الغزاوي) وكذا الإصدار القيم للأستاذ حماد بن حامد السالمي (الطائف في شذرات الغزاوي). وبإصدار الدكتور اليافي يستكمل هذا العقد الثمين منظومته. والواقع ان تلك الإصدارات المتتالية قد أعادتني من حيث لا أدري إلى تذكر ذلك العنوان الجميل للكتاب (أهل الحجاز بعبقهم التاريخي) للرائد الصحفي الكبير الأستاذ حسن عبدالحي قزاز يرحمه الله. إن من الواضح بالنسبة لي أن هناك علاقة خاصة تربط بين الدكتور اليافي وعشقه للتاريخ لعل مرجعها إلى عراقة أسرته الضاربة في جذور الأصالة والنسب الشريف الذي يشعل قلم الكاتب بفعالية وتعمق ليضيء بنوره كل ما يتناوله في الشأن التاريخي باقتدار، وقد أحسن المؤلف بإقدامه على هذا العمل الكبير بما يتطلبه من بذل مجهودات مضنية في التقصي والبحث والتمحيص الذي تقف خلفه إرادة صلبة وإصرار ومثابرة لا تتوافر إلا فيمن تستحثه عوامل الانتماء والتحفز العلمي لتقديم عمل متكامل يحسب لكاتبه كقيمة أدبية تاريخية نافعة للأجيال. كذلك فإن هذا العمل القيم لم يقابل باستحسان الأوساط الأدبية والمهتمين بالدراسات التاريخية فحسب، بل بمختلف شرائح القراء باعتباره ليس على شاكلة بعض الكتب النخبوية في ذات المجال، فهو لم يقتصر على الشذرات بل زواج المؤلف بين تاريخ مدينته العتيدة وبين الشذرات كونها في صميم تاريخ مدينة جدة الحافل وقدمها للقارئ بمنهجية إنسيابية عكس من خلالها صورة المجتمع على مرآة التاريخ. إن الدكتور اليافي أكد بعمله هذا على أنه ذلك النموذج للكاتب الذي يستشعر مزاج القارئ فلا يقدم له المعلومة التاريخية مجردة بتعقيداتها التي تثقل على تفكيره وتصيبه بالملل الذي يحد من استطراده بل تجعله يسترسل في قراءتها برغبة وارتياح من خلال تبسيط المعلومة في صورة علمية تجسد التاريخ الانساني لمدينته العريقة وتحجب على الكثير من الاسئلة مع رصده ونقله لما جاء في كتب الرحالة المسلمين والمستشرقين عن وصف مدينة جدة عبر حقب التاريخ في نسق بديع وعرض شيق مشوق. وأخيرا وليس بآخر فإن هذا العمل يمثل إضافة مميزة للمكتبة العربية حري بنا قراءته واستيعابه للتعرف على الأهمية القصوى لمدينة جدة المحروسة. فشكراً للدكتور اليافي ألف شكر، وحمداً له على كل ما قدم ويقدم مع تمنياتي له بمزيد من العطاء النافع. وبالله التوفيق.