* بدأ اليوم هكذا.. اتصل بي عمدة البخارية، وضواحيها، وأطال في الكلام عن علاقتي بالعمد، ورأيي فيهم، وموقفي منهم.. بعد لحظات اتصل بي عمدة العزيزية، وبعد الكلام، والسلام، والحساب، والعتاب أبلغني بضرورة حضوري لشرطة الشمالية: * ليه يا شيخ علي.. - أصلك زعلتهم، وشوّهت صورتهم في مقالك، ورافعين شكوى لمدير الشرطة لإحالتك للتحقيق.. * أجيب محامي.. - تجيب محامي، أو ما تجيب القضية هذي المرة لابساك.. * الصلح ما ينفع يا شيخ علي.. - تحتاج قاعة أفراح للصلح فهناك "66عمدة" موقّعين على الشكوى.. * طيب ممكن أدخل السجن ووزارة الإعلام ما تعرف..؟ - ممكن.. قلت في نفسي: المسألة قد تدخل في مرحلة الجد، ولابد من الاتصال بأصدقائي في الجهات الأعلى من الشرطة لأنه من غير المعقول أن يُصدّق العمد أنفسهم، ومعهم مدير الشرطة، ويطالبون بالتحقيق معي لأنني كتبت كلاماً عن "ختم العمدة".. وتصديق الأوراق كروتين نعيشه من مائة عام. لو رفضت الحضور لشرطة الشمالية فإن الأمور قد تتفاقم، ويحضر عمدة الحي، والعسكري، ولو باشرت الحضور - حسب التعليمات - فإنني سأكون قد ابتدعت بدعة لا داعي لها، وسيلومني جميع السادة من حملة الأقلام لأن لهم مرجعا معروفاً، ولأن لهم رؤساء في أماكن عملهم، وليس لهم علاقة بأقسام الشرطة..!! سارعت بالاتصال بصديقي، وزميلي في مثل هذه الأمور محمد الفايدي لأحصل على هاتف الفريق أسعد عبدالكريم مدير الأمن العام، أو نائبه اللواء علي البار فاقترح أن أتصل بالنائب بينما كنت أريد الاتصال بالمدير، رضخت لنصيحة الفايدي، وتم إرسال صورة من "المقال المشكلة" إلى النائب الذي أبدى استغرابه من الشكوى للشرطة في وقت يوجد فيه مرجع أساسي لمثل هذه الحالات، وقام بإنهائها بصورة ودية. سألت نفسي سؤالاً ساذجاً للغاية: لماذا يشتكي هذا العدد الكبير من العمد على ملاحظة طريفة، إذا كان الكاتب، وكل معارفه، وأصدقائه، وأقاربه قد قدموا مبالغ تبدأ بثلاثين ريالاً، وترتفع الى خمسين, تصل الى مائة عن تصديق أوراقهم، ويجوز أن ذلك لا يشمل الجميع لكنه أمر متعارف عليه، وقد خدمني مدير الأحوال المدنية الأستاذ عبدالله باكرمان اثناء عمله حين كتب على معاملة استخراج البطاقة، وتصديق شيخ القبيلة عبارة "معروف لدينا" فكلنا من مواليد مدينة جدة، من برحة نصيف التي ولدت في مبنى من مبانيها "يقع تحتها دكان الشلبي صاحب أشهر، وأقدم صيدلية شعبية تصرف الدواء لحارات جدة القديمة، وضواحيها". ولماذا يغضب العمد على هذه الدعابة الصحفية العابرة وقد تربينا في زمن حامد عطية عمدة الهنداوية، ومحمود أبو داود عمدة القريات، وعلي عبدالصمد عمدة البحر، ومحمود باعيسى عمدة الشام، وغيرهم، وغيرهم ممن نحمل لهم الذكريات الطيبة؟ ثم لماذا يغضب السادة العمد كل هذا الغضب، وصديقي وصديقهم هو العمدة محمد صادق دياب، الذي أدار أعناق الجداويين إلى مبانيهم العتيقة، وذكرياتهم الجميلة، وتراثهم الأصيل، وتقاليدهم الفريدة من خلال ما قدمه قلمه الراقي من صورة جذابة وحكايات ممتعة عن حارات جدة القديمة جعلت كل أصدقائه ضحايا لعشقه الأول؟ وهذا هو المقال الذي ثار عليه العمد.. العمدة, والبخشيش، وروتين التعريف * روى صديق لنا أن عمدة حارته يضع، خلف رأسه جزءًا من الآية القرآنية: "ادفع بالتي هي أحسن".. في إشارة منه إلى ضرورة "الدفع" عند طلبه تصديق العمدة.. وسواء كانت هذه هي الحقيقة، أو أنها مجرد لقطة مرحة اخترعها صديقنا، وافترى بها على العمدة فإن الواقع منذ أكثر من ثلاثين عاماً يؤكد أن العمدة لا يتساهل في هذا الطلب العادي تصريحًا، أو تلميحًا، وقد دفعت - أكثر من مرة - مبالغ مالية لتصديق معاملة لي، ولأقربائي "عن طيب خاطر" وكنت حريصًا على أن يكون الدفع قبل التصديق، وألاَّ يقل عن مائة ريال حتى لا يتباطأَ العمدة في البحث عن "الختم" وتعطيل التصديق لليوم التالي. ولكن أغرب موقف مرّ بي أنني توسطت عند أحد العمد لتصديق معاملة فرفض بكل الطرق تصديقها فأعطيناها أحد المعارف الذي قام بتصديقها من قبل العمدة نفسه الذي لم يمض على رفضه لها 24 ساعة مما يعني أن في الأمر سرًّا. وأن موضوع "تعريف العمدة" أو "تصديقه" كان يحتاج إلى "دفّة" من شخص تربطه علاقة أقوى بالعمدة "تذيب الروتين" أو تفك عقده..! هذه حكاية ثانية.. ذهبت مرة لتصديق معاملة مع زميل لي فقيل لنا: إن العمدة في إجازة لمدة شهرين "يوليو، وأغسطس" فقلت لزميلي: إن العمد لدينا يحصلون على إجازاتهم في نفس توقيت السياسيين الأوروبيين الذين يخططون لإجازاتهم في هذين الشهرين بالذات لإراحة أعصابهم في فصل الصيف، ولو امتد هذا التقليد لبقية العمد فإن جميع عمدنا سيصبحون على المستوى الأوروبي الرفيع.. ثم قيل لنا: إن عمدة حي آخر يقوم بأعمال هذا العمدة، فذهبنا له بعد صلاة العصر، وبعد صلاة المغرب، وبعد صلاة العشاء، وأخبرنا أن علينا الحضور في تمام العاشرة، وحلّ لنا مشكلة ختم العمدة شخص آخر لكن بعد أن "حفيت أقدامنا". ومسألة تقديم مبلغ مالي "حسب استطاعة الشخص" عند وضع العمدة ختمه على المعاملة هو نوع من أنواع "الفلكلور الشعبي" هدفه تقدير دور العمدة الاجتماعي، والرفع من "معنوياته" ليظهر وسط السكان بمظهر لائق فلا يركب سيارة قديمة موديل 80م ونحن على مشارف ال 2002م ولا يكون مسكنه ثلاث غرف، وصالة صغيرة وغيره من سكان حارته يسكنون في فلل، وعمارات، وغرف بلا عدد، وصالات طويلة، وعريضة، ولا يعاني، إذا فاجأه ضيف، أو قريب، أو عزيز فلا يجد في محفظته أكثر من شراء وجبة بروست أو كبسة لحم مثلج، ومستورد انتهت صلاحيتها الآدمية بينما في سكان حارته من يذبح، ويطبخ، وينفخ فتفوح الرائحة، والدخان من كل جانب، ولا يتمزّق خجلاً حينما يرى عددًا من سكان حارته يتوافد على أبنائهم المدرسون الخصوصيون ولا يجد في جيبه ما يسدد به أجر السائق الخصوصي الذي ينقل الابناء للمدارس فيعتمد على نفسه مرة، وعلى فراش مكتب العمودية مرّة، وعلى بعض جيرانه مرّة، ولا يواجه متاعب جمّة عند حلول إجازة نهاية العام لتوفير ثمن التذاكر، وحجز الفندق، والشقة بينما يرى بأم عينيه كيف يتفاخر أبناء الجيران بتذاكر الدرجة الأولى، وفنادق ال (خمس نجوم)، والشاليهات التي يحجزونها، والأماكن الترفيهية، والتاريخية التي يزورونها.. وقد تصادف قبل سنوات طويلة - نوعًا ما - أن كنت مسافرًا للقاهرة فوجدت أحد العمد المعروفين في صالة المطار بملابسه الرسمية وفي أعلى جيبه بطاقة صعود الطائرة الحمراء "التي تدل على ركاب الدرجة الأولى" وعرفت أنه مسافر لليلة واحدة لحضور حفل زفاف أسرة من حارته وجّهت له الدعوى وربما منحته التذكرة كما هو حال الأسر الموسرة التي تقيم أفراحها في الخارج وللحظات قليلة، أو عابرة تمنيت أن أكون عمدة.