حتى الضرير يستطيع أن يرى بعين بصيرته بأن العالم يعاني من فوضى دولية تخثرت فيها القيم الإنسانية. ونحن في عالم منقسم على نفسه حول الكوارث الرهيبة الموجعة الخمسة : الفلسلطينية والعراقية ؛ والأفغانية ؛ والصومالية ؛ والسودانية . وهو عالم مشعث الإرادة حول الفقر والأمراض المرعبة ؛ والتطرف العنيف؛ والبيئة العالمية ؛ وهو على مشارف الردة نحو عصر الإمبراطوريات الاستبدادية الاستعمارية واستعباد الشعوب. لعله من المنطق المعقول أن نعتبر التاريخ عملية فكرية تهدف إلى إحياء حقائق الماضي ؛ بكل أشخاصه ومجتمعاته ؛ أماكنه وحوادثه ؛ ثقافاته وحضاراته . ويمكن اعتباره عملية تواصل فكري ، حوار ، تفاهم ، وتعايش بين المؤرخ وحقائق الماضي. ولعل أعظم درس يمكننا تعلمه من التاريخ هو أن كل من يهمل دروس وعظات ماضيه النافعة ، يهمل أسباب الفشل أو النجاح في سعيه نحو المستقبل الذي يريد. وكل أمة أو دولة تهمل دروس وعظات التاريخ ، تهمل أسباب فشل أو نجاح سعيها للوصول إلى طموحات وأشواق مواطنيها في مستقبل زاهر آمن. لقد عانى العالم عدة كوارث مخيفة خلال نضال الأمم للفوز بسيادتها على نفسها ؛ واستقلالها وحريتها من أية سيطرة غير إرادتها ؛ وقدرتها على تحقيق طموحات وأشواق وحاجات مواطنيها ؛ ومساواتها في الحقوق والواجبات والمسؤوليات في مجتمع مدني عالمي. لعدة قرون مضت ناضل العالم للفوز بالديمقراطية وحقوق الإنسان والأمم ؛ ومن بين كل الأديان والعقائد والنظريات السياسية التي هيمنت على عقول وقلوب الناس ؛ منذ العالم القديم وحتى اليوم الذي نحن فيه كانت عقيدة الوطنية أو '' القومية '' ، وهي لا تزال المحرك الأقوى والأهم في تكوين الأمم وقيامها . ومهما كان اسمها عبر تطورها في التاريخ ؛ ما زالت الدافع السياسي والنفسي والمعنوي الأقوى من أي دافع آخر لمواقف الأمم الكبيرة أو الصغيرة وعلاقاتها الدولية . وهي بكل تأكيد ممكن ما زالت من أهم أسباب الحروب بين الأمم . كما كانت من أهم أسباب الحرب العظمى الأولى ؛ والحرب العالمية الثانية . اليوم ، وبعد كل المنجزات الإنسانية الرائعة ، أصيب العالم بظمأ شديد للأمن والحرية ، بعد أن اضمحلت مباديء وقيم الإنسانية ، وتعكرت ينابيع ميثاق الأممالمتحدة ، وأخذت تخيم على العالم غيوم الخوف من الهيمنة الاستعمارية الجديدة ، السياسية ، الاقتصادية ، الثقافية ، وحتى الدينية التي تحاول أن تمنع وتعدل كما تشاء تقاليد الأديان. لا شك أن القانون الدولي الذي لا تدعمه القوة الشرعية قانون بلا سلطان أو سيادة ويبقى حبرا على ورق ، ولكن القوة وحدها بلا شرعية دولية جلابة للكوارث الإنسانية. ولذلك فأي استراتيجية تركز على استخدام القوة العسكرية لن تستطيع أن تقتلع جذور العنف المتطرف أو المقاومة الوطنية أو الإرهاب. بل تجازف الدولة التي تستخدم القوة العسكرية في إعطاء الشرعية المطلقة للمقاومة العنيفة ؛ خاصة ضد الاحتلال. شرعية نداء ديغول لمقاومة الاحتلال النازي ، وشرعية إعلان الحرب من قبل أمريكا بعد بيرل هاربر سابقتين قانونيتين لا جدل فيهما. نحن في مرحلة عالمية لم تعد فيها القوة العسكرية والتقدم التقني الفتاك العاتي هي الأعلى والقاهرة. لقد أصبح الضعفاء قادرين على تهديد أمن الأقوياء وإصابتهم بما يكرهون. مذبحة 11 أيلول شاهدة على ذلك بالرغم من كونها مخالفة للتقاليد الإسلامية (''... لا تخونوا ولا تغلوا ؛ ولا تغدروا ولا تمثلوا ؛ ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا إمرأة ؛ ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ؛ ولا تقطعوا شجرة مثمرة ...'' (أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه) . القوة العسكرية الفائقة لن تحقق الهدف من استخدامها بدون الاستماع بانتباه واهتمام ، وفهم صحيح لشكوى الطرف المقابل ، والاعتراف بهوية وطموحات الطرف المقابل الشرعية العادلة ؛ ذلك لأن الأديان والعقائد والأمم والدول مثل الأفراد يتعطشون لاحترامهم وأخذهم بعين الاعتبار بالعدل والانصاف ، والحرية وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية. وهم يرفضون الاستسلام للقوة العسكرية العاتية ، والتفوق التقني ، والسيطرة الاقتصادية. الرأي الأردنية