وعدت في الأسبوع الماضي في هذا الركن بالذات بمناقشة الأطروحة التي تقدّم بها المفكر سلامة موسى بخصوص التأثير المتبادل بين قواعد البلاغة العربية وبين التخلف. وبهذا الصدد أكد بأن قواعد هذه البلاغة تحليلية. وهي لذلك تربك العقل وتعرقل حركته، فالتحليل في هذا النطاق يضر ولا ينفع. وهنا تقترح سلامة موسى إعادة النظر بصرامة وحسم في هذه القواعد إلى حد أنه قد دعا إلى تصفيتها وتجديدها، وربما إلى الاستغناء عنها. وفي مكان آخر يحاجج سلامة موسى بأن لغة الجاحظ لم تعد تلائمنا. وهكذا ففي تقديره فإن المطلوب هو "أن نعالج موضوعات عصرية بلغة عصرية"، ولأننا "إذ نخاطب جمهورا ديمقراطيا يجب علينا أن نتخذ اللغة الديمقراطية، وإذا كانت كتب البلاغة لم تذكر شيئا عن اللغة الديمقراطية فلأن مؤلفيها لم يعيشوا قط في نظام ديمقراطي". إن هدف سلامة موسى من إثارته هذه القضية هو تحويل اللغة إلى عامل حضاري فاعل، وجعلها لغة الأداء، وليس لغة الولاء للزخرف البديعي الخارجي. وفي الواقع، فإن سلامة موسى لم يحدد الفرق بين اللغة التحليلية كما هي في البلاغة، وبين اللغة التركيبية كما هي في العلوم والرياضيات والهندسة، ولكنه قد ركز على غايته التي هي ترقية اللغة العربية من كونها علامة ثقافية إلى حال متطور تكون فيه الحضارة بذاتها، أي أن نعمل بها بدلا من التخاطب والتواصل بها فقط. فاللغة كعلامة ثقافية هي ما "نتكون به". أما اللغة كحضارة فهي "ما نعمل به"، حسب تأويلنا لأفكار سلامة موسي. وفي هذا السياق فإن المفكر جون سيرل المتخصص في فلسفة اللغة يساعدنا على تعميق معرفتنا، وفهمنا لدور اللغة باعتبارها "نوعا من الفعل الإنساني" وأن اكتساب اللغة يساهم بقوة "في ازدياد القصدية"، و"في بناء العقل". ووفقا لهذا المفكر فإن العقل يبنى لغويا. وهكذا يربط جون سيرل بين القصدية وبين اللغة حيث يسجل بأنه من الممكن للأطفال في مرحلة ما قبل اللغة أن يمتلكوا أشكالا بداعية من القصدية. إلا أن هذه القصدية سوف تبقى بدائية بدون اكتساب اللغة. ومما لا شك فيه أن اللغة التي يتحدث عنها جون سيرل هي التي تتميز بصفة التركيبة، فماهو المقصود في الفلسفة بالمميز بين القضايا التحليلية، وبين القضايا التركيبية. فالقضايا هي عبارات لغوية في نهاية المطاف. عندما نقول بأن الكل أعظم من الجزء فهذه قضية تحليلية لاغير، لأن محملو لها (الجزء) هو أصغر من الكل بالبديهة. وهذا يعني أن العبارة "القضية" التحليلية لاتضيف لنا معرفة بموضوعها. وعلى نحو معاكس فإن الأحكام التركيبية "تقوم على تأليف جديد بين المحمول والموضوع مما يزيد محمولها معرفة بموضوعها. وهذا ما يضيف إلى معرفتنا بالموضوع" وفقا لشروح الدارس محمود شريح للأحكام القبلية التركيبية في فلسفة عمانويل كانط. وهكذا نصل إلى أن سلامة موسى يدعونا إلى ترقية اللغة العربية لكي تكون لغة التفكير العلمي الدقيق التي تضيف إلى معارفنا الجديد. وذلك بتصفيتها من قواعد البلاغة التحليلية التي تكتفي بالتفسير وتقديم نفسها على أنها الواقع. وهي ليست كذلك، أو تقدم الواقع كدمية مفرغة من الحياة. الخبر الجزائرية