رحلة العودة من الوطن إلى وطن الغربة بدأت قبل ساعة الفجر وانتهت مع ساعات الضحى وقد أخذ التعب منا مأخذه، وزال عنا عندما قابلنا في صالة القدوم الغالية رشا ووالديها، فقد رغبوا أن يكونوا أول المعزين بفقيدنا، وبسيارتهم انتقلنا من المطار إلى البيت، وعرفت من رشا أن وجبات الطعام للأيام الثلاثة الأولى ستؤمن من مطبخهم جريا على عادة أهل والدتها في بيت لحم. وكانت مبادرة كريمة من جيران أحبة لا يزال الدم العربي يجري في عروقهم محملا بقيم أسبانيا المسلمة وتراث الأجداد الأوائل. وكعادة رشا في تعميم الأخبار على الجيران فقد ازدحم منزلنا بالمعزين مع ساعات المساء طيلة الأيام الثلاثة الماضية ، وقدمت لهم القهوة المرة التي أعدتها والدة رشا ومعها تشكيلة من تمور المملكة. وكان حديث عن العادات والتقاليد في مثل هذه المناسبات وكيف أن الإيمان بقضاء الله وقدره يخفف من صدمة الفقد ،وأن الدعاء بالرحمة للفقيد يريح النفس، وأن الحياة محطة بين حياتين، والكاسب منها من أبقى ذكراه طيبة بعد موته، وأيدت قولهم بالحديث النبوي الشريف "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" . وعلق والد رشا على الحديث الشريف بقوله إن ذلك ينطبق أيضا على الأمم ، فلكل أمة مراحل صعود وهبوط ، وزوال حكم ليحل محله حكم آخر، وخير الأمم من تترك لمن بعدها صدقة جارية تتمثل في إرساء قواعد العدالة الاجتماعية وعلم ينتفع به يتمثل في التراث الثقافي وولد صالح يتمثل في الأجيال التي تعتز بماضيها ، وهذا ما نعيشه اليوم في أسبانيا، فنحن من ورثنا عن أسبانيا المسلمة هذا الكم من العلوم والمعارف التي تشهد جامعات اليوم بقيمتها العلمية والأدبية وتزخر مكتباتنا الوطنية هنا في أسبانيا وكبرى مكتبات العالم خارج أسبانيا بعشرات الآلاف من المخطوطات لعلماء من أسبانيا المسلمة، ولدينا القوانين التي لا تزال في جوهرها إسلامية المضمون توفر العدالة و المساواة بين المواطنين وإقامة العدل فيما بينهم، ونحن الذين نحرص على إعطاء الأجداد ما يستحقونه من التقدير ونسعى لتوثيق علاقاتنا مع العالمين العربي والإسلامي لتبادل المعرفة في سبيل تعاون إنساني أشمل يزيل العدوان الذي وقع على مدينة السلام وما حولها. وهنا جاءت مداخلة رشا لتقول بأن الأبناء البررة لأسبانيا المسلمة قد أنجزوا دراسة علمية رقمية عن النصوص المنقوشة على جدران قصر الحمراء تبوح بأسرار عمرها، وأن رئيس المجلس الأعلى للأبحاث العلمية الأستاذ رفائيل رودريجو، ومديرة تراث قصر الحمراء وجنة العريف في مدينة غرناطة الأستاذة ماريا بييا فرانكا سيعرضان هذا الأسبوع في مدريد الجزء الأول من الدراسة التي تحمل عنوان " نقوش قصر الحمراء" ، ويعتبر هذا الكتاب أول دراسة من نوعها تضم تحليلا للنصوص المنقوشة على جدران قصر الحمراء والتي تشمل أدعية وابتهالات إلى الله ، وأبيات مديح للسلاطين، وآيات قرآنية، إضافة إلى شعارات ملكية أبرزها شعار "لا غالب إلا الله " الذي ميز دولة بني نصر التي حكمت غرناطة في الفترة ما بين 1232 – 1492 م ، وهو العام الذي شهد سقوط غرناطة في أيدي الملوك الكاثوليك، وتضم الدراسة العلمية التي أنجزت بالتعاون مع معهد الدراسات العربية في غرناطة والمجلس الأعلى للأبحاث العلمية شرح وتبويب و تصنيف لأكثر من عشرة آلاف نقش من النقوش البارزة التي تزين قصر "الكمارس"، ذلك الأثر الأندلسي الهام بقصر الحمراء .والطريف في الأمر أن الجمهور الآن يستطيع الحصول على هذه المعلومات التي تتضمنها الدراسة التي تم تحويلها إلى القالب الرقمي والمتوفرة ضمن اسطوانات دي في دي بمجرد ضغطة بسيطة على جهاز الكومبيوتر فتنساب أمامه معلومات لها من العمر أكثر من خمسمائة عام ، ويعمل الباحثون حاليا على إنجاز الجزء الثاني من الدراسة الرقمية التي من المقرر أن تضم تبويب وشرح وبطاقات تعريف لأكثر من ستة آلاف نقش عربي بارز بالخط الأندلسي تزين جدران وأسقف ما عرف بقصر الأسود، وباكتمال هذه الدراسة يكون قد تم تغطية سبعين بالمائة من آثار بني نصر ، أما باقي معالم قصر الحمراء مثل باب النبيذ وباب القاضي وقصر البارتال والأبراج ودير سان فرانسيسكو وحدائق جنة العريف فسوف تخصص لها أجزاء أخرى ضمن ذات المشروع، ومن المنتظر أن يتم إنجازها بين عامي 2010 و 2011. وختمت رشا مداخلتها بقولها إن شباب اليوم يعيدون ذكرى الأجداد بكل الحب والتقدير، ويعملون على عودة أسبانيا لمكانتها المميزة بين الأمم، وهذه العودة تتطلب تآزر الهمم والجهود بيننا نحن في أسبانيا وأنتم في العالم العربي. وقبل أن تغادر عادت لتذكرني بتفسير حلمها وأنها ستعود إلي في عطلة نهاية الأسبوع ، فقلت لها قولي إن شاء الله وأهلا وسهلا بك في أي وقت.