أكثر من مرة يأتي مستوضحاً عن بعض نصوص نظام التأمينات الاجتماعية في ما يتعلق باستحقاق المعاش بعد وفاة الموظف، ولست أدري هل هو النسيان الذي يجعله يأتي في كل مرة ، أم أنه الخوف الذي يجعله قلقاً على مستقبل اٍلأسرة بعد وفاته ، إلى الحد الذي يجعل هذا التفكير مسيطراً على إحساسه ومهيمناً على نظرته للحياة فتملأ هواجسه فكره وكيانه.؟! وكأنه مكلف بذلك تكليفاً لا ينفك عنه ولا يحيد. هذا الاهتمام الكبير من هذا الأب لا شك أنه يولد في نفسه الخوف على أبنائه، بل ويلقي في روعه أنه مسؤول مسؤولية تامة عن تأمين مستقبلهم بتوفير أكبر قدر من المال لهم، وهو حين يصل إلى هذه المرحلة فإنه بكل تأكيد قد يتناسى في زحمة هذا التفكير أمورا هامة ثابتة بنصوص شرعية، يأتي في مقدمتها الإيمان بقضاء الله وقدره، وان كل ما يعمله الإنسان إنما هو مجرد سبب قد يحصل به المطلوب وقد لا يحصل. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فأن تعاظم الاهتمام بتوفير المال للأبناء وحده قد ينتج عنه خلل في تصوراتهم فيظنون أن الأب لا بد وأن يوفر لهم هذا المال مهما كلفه الأمر . فإن لم يحدث هذه الأمر جعلوا السبب في عدم حصوله تراخي الأب وتهاونه. وهو مفهوم لا يعبر عن حقيقة الأمور ولا يفصح عنها . ومتى علم الأبناء بهذا الخوف من الأب فإن في ذلك خطورة قد تنعكس على نظرتهم للحياة بصفة عامة فيعتقدون أن المال هو الغاية من الحياة وأنه بوفرة المال تتحقق لهم الحياة وهو أمر لا يتفق وأصول الشريعة ، فليس المال إلا وسيلة وليس غاية. وهذا الأب بهذه النظرة لا شك أنه مثال غير مرغوب في ضرورة تحقيق المعادلة بين حقوق الإنسان وواجباته تجاه أسرته . وبتمحيص النظر في مثل واقع هذا الأب نجد أن هناك خللا قد يقع منه في تربية أبنائه حينما ينفث في روعهم أنه مسؤول عن توفير المال لهم حتى بعد وفاته . وكان عليه أن يوازن بين مسؤوليته في تحصيل تكاليف المعيشة لأسرته وبين مسؤوليته في تعليمهم وتوجيههم في الحياة توجيهاً سديداً لاعتناق مبادئ إسلامية وقيما أخلاقية تحميهم - بعد توفيق الله - من الوقوع في كثير من الأخطاء العملية في مسيرة حياتهم ، سواء في تعاملهم مع والدهم أو مع بعضهم بعضا أو مع من حولهم من أفراد المجتمع . ذلك أن رب الأسرة عليه أن يبتعد بقدر الإمكان عن الدعوة إلى ضرورة تحصيل المال أو تحسينه في نظر أبنائه وتعظيم ذلك الأمر وترسيخ مفاهيمه في نفوس الأبناء إلى الحد الذي يجعلهم يرون معه أن قيمة الإنسان ومكانته بقدر ماله وأرصدته، فيلتفتون عن كل القيم الإنسانية والمبادئ السامية النبيلة ، فالابتعاد عن مفهوم ضرورة توفير المال والاستعاضة عنه بترسيخ مبادئ أخلاقية وقواعد شرعية وضرب أمثلة لأصحاب القدوة الحسنة قديماً وحديثاً ممن أغناهم الله ويسر لهم أمورهم بعد فقر وعسر ، هو أمر يضع الأمور في مواضعها الصحيحة . بحيث يكون العمل في سبيل طلب المال مقروناً بمبادئ وقيم أخلاقية وتعاملات نبيلة وسامية . ووسائل شريفة وحميدة فإن حصل المال بتلك الأسباب فبها ونعمت وإن لم يحدث ذلك فقد حفظ الإنسان دينه ومبادئه وأخلاقه وهي المكسب الحقيقي في هذه الحياة . فالمقدرة المالية مهما بلغت هي نسبية على كل حال ، تختلف من إنسان إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر . ولم يصل إنسان على هذه الأرض بعد إلى المكانة التي يكون معها لا يريد مزيدا من المال . فالأثرياء في كل زمن يموتون وهم لازالوا يسعون لتحصيل المزيد من الأموال والبحث عن طرق جديدة لكسبه واستثماره . ومن لم تحصل له القناعة في قلبه لم تحصل له في جيبه أبد الدهر . وهكذا صاحبنا هذا أخطأ حينما لم يزرع في نفوس أبنائه القناعة ولم يعلمهم مبادئ المحبة والإيثار ، وعليه أن يعيد نظرته للحياة ويتدارك ما يمكن تداركه ليعيد صياغة مفاهيم الحياة في فكر أبنائه . اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا إنك ولي ذلك والقادر عليه . ص . ب 9299 جدة 21413 فاكس : 6537872 [email protected]