بعد أن كتبت مقالي السابق عن معرض "ألف اختراع واختراع" الذي يتنقل في المدن البريطانية ليحشد صوراً من التألق العربي الإسلامي في الذاكرة العالمية، أرسل لي صديق يعيش في استانبول معلومات عن "متحف تاريخ العلوم والتكنولوجيا الإسلامية"، الذي تم إنشاؤه بالتعاون بين عدة جهات تركية ومعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في جامعة فرانكفورت (ألمانيا). وقد تم افتتاحه ربيع هذا العام، ويقع في حديقة "غولهانة" قرب قصر طوب كابي الشهير. ويعد الأول من نوعه في العالم. والهدف الرئيسي لهذا المتحف هو الكشف عن دور ومساهمات العلماء المسلمين في الحضارة الإنسانية على مر العصور والتعريف بإنجازاتهم، وجعله مركزًا للبحث العلمي الموضوعي وميدانًا للنشر والترجمة. وبالمناسبة فإن معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في جامعة فرانكفورت قام بتأسيسه العالم والمؤرخ المسلم البروفسور فؤاد سزكين، صاحب كتاب "تاريخ التراث العربي"، وذلك منذ أكثر من ربع قرن من الزمان. ويضم المتحف محطات رصد فلكية، وأجهزة المستشفيات، وغيرها من الآليات التي استخدمها علماء المسلمين في أبحاثهم، إلى جانب نماذج من الاختراعات والعلوم التي حققها المسلمون في قرون الحضارة الإسلامية. كما يعرض النظريات العلمية من خلال لوحات جدارية، مع التركيز على أن العلوم التي طورها وأنشأها علماؤنا المسلمون ساهمت في خدمة الإنسانية لألف سنة من الزمان، وأن الثقافة الإسلامية ساهمت بشكل ضخم في صياغة الوضع الحالي للعلوم، من خلال إنجازاتها في تلك العصور. ويحاول المتحف التصدي لبعض الادعاءات الغربية التي تقول بأن الحضارة الإسلامية ما هي إلا "ناقل" للعلوم من العصور القديمة إلى الحديثة. فيدحض المتحف هذه النظرية بالكشف عن إسهامات المسلمين في بناء الحضارة عبر العصور المختلفة والنجاحات والإنجازات التي أضافتها الحضارة الإسلامية خدمة للعلم ليبرز الدور الهام الذي لعبه المسلمون. ولعل المتحف يجسد كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، وعنوانه حسب الترجمة العربية: شمس العرب تسطع على الغرب، لكن الترجمة الحرفية لعنوان الكتاب هي: شمس الله تسطع على الغرب. ومعظم معروضات المتحف نماذج قام بإعادة تصنيعها معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية التابع لجامعة فرانكفورت طبقاً لما أوردته المصادر التاريخية، وقسم منها نُفذ بما يتطابق مع بعض النماذج الأصلية التي بقيت حتى يومنا هذا. ومن معروضات المتحف نموذج لكرة أرضية ترجع لعهد الخليفة المأمون، ومضخة ماء، وأول بوصلة في العالم، وذلك من بين مائة وأربعين عملاً في الوقت الحاضر. لكن عدد الأعمال سيرتفع في المراحل التالية ليصل إلى ثمانمائة عمل. هذا بالإضافة إلى قسم خاص يحوي عددًا من النماذج التفاعلية، والتي تمكِّن الزائرين، وبخاصة الأطفال، من التفاعل مع العلوم المختلفة. ويتألف المتحف من ثلاثة أبنية ويضم أقساما عدة منها: الفلك، الجغرافيا، علوم البحار، الهندسة الرياضية، الكيمياء، البصريات، الطب، الفيزياء، صناعة الساعات، الميكانيكا، التقنيات الحربية، والهندسة المعمارية. كما يضم أيضا "مكتبة تاريخ العلوم". وقد سألني سائل: لماذا التركيز على تاريخنا المجيد ونسيان حاضرنا المتخلف؟ فأجبته: ليس الأمر كذلك، فدراسة التاريخ ما هي لمعرفة أسباب النهوض وأسباب التخلف، ثم الانطلاق نحو المستقبل. نعم إن النظر في الماضي مهم، لكنه ينبغي ألا نصرف فيه وقتاً كبيراً إلا بمقدار الوقت الذي يصرفه سائق السيارة وهو ينظر في المرآة التي تكشف ما وراءه، في حين يكون معظم تركيزه على ما أمامه وهو ينظر إلى الأفق البعيد. كلية الهندسة جامعة الملك عبد العزيز [email protected]