في أيام النفحات الرمضانية حِكَمٌ لا تفوتنا، فمن تدبرها فقد هُدِيَ، ومن غفل عنها فقد غفل :أولها : قوله تعالى : " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " .فالصوم إذن هو التعبد بترك الشهوات .وقد وجه الله الخطاب للمؤمنين في الآية؛ لأن صيام رمضان من مقتضيات الإيمان . وقد ذكر الله تعالى أنه فرض على من قبلنا، ولم يذكر مثل ذلك في الصلاة؛ لأن الصيام فيه مشقة وفيه التعب وفيه ترك المألوف، فذكر الله أنه فرضه على من قبلنا؛ تسلية لنا وتكريما لأمتنا، إذ إنه ما من خير في دينهم إلا هو في ديننا . ثانيا : تأكيده على التقوى في جميع آيات الصيام؛ لأن الصوم جنة يقي من الذنوب والنار، وهذه حكمة إيجاب الصوم، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " ( أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه ) . ثالثا : أن التيسير في الأحكام الشرعية يتجلى ظهوره في أحكام الصوم، فقد قال سبحانه : " فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " .والمرضى ثلاثة أقسام : قسم مريض لا يرجى برؤه، فهذا لا صيام عليه، وعليه عن كل يوم مسكين، وقسم مريض مرضا يضره الصوم، فهذا يمنع من الصوم ويحرم عليه، وقسم مريض يشق معه الصوم، لكن لا ضرر عليه فيه، فالأفضل له أن يفطر، ثم يقضي بعد ذهاب المرض، فأي يسر ذلك وأي رحمه؟ رابعا : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " . والمعنى هنا، أن الصيام يختصه الله سبحانه من بين سائر الأعمال، فإنه سر بين الإنسان وربه، فلذلك كان أعظم إخلاصا، وقال بعض أهل العلم إنه إذا كان يوم القيامة، وكان على الإنسان مظالم للعباد؛ فإنه يؤخذ من حسناته إلا الصيام، فإنه لا يؤخذ منه شيء . صوم الصابرين وصبر الصائمين الصيام ..ذروة الإحساس بلذة العبودية والصوم قد اشتمل على أنواع الصبر كلها، ففيه صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله، وصبر عن أقدار الله .فأما الصبر على طاعة الله؛ فلأن الإنسان يحمل نفسه على الصوم مع مشقته، لكنه مع ذلك يتحمله ويصبر عليه، والصابرون على العبادات الثابتون عليها، هم أهل الرضا . وأما الصبر عن معصية الله فهو حاصل للصائم، فهو يصبر نفسه عن معصية ربه، فيتجنب اللغو والرفث والزور والفسوق، بل يتجنب حديث النفس بالآثام . وأما الصبر على أقدار الله، فإن ذلك لأن الإنسان يصيبه من الملل والكسل والعطش، ما يتألم ويتأذى به، ولكنه يصبر لأن ذلك في مرضات الله، فلما اشتمل على أنواع الصبر الثلاث، كان أجره بغير حساب، إذ قال الله تعالى : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " . إنها حياة تمتزج فيها العبادة بالحب، فتصير في أسمى معانيها، إذ أسمى العبودية هو تمام الحب مع تمام الذل والانقياد . تلك الحياة المخلصة التي يحياها الصائمون، يستشعرون فيها لذة العبودية، لا مجرد تنفيذ الأمر، فهو مذاق سكري مستلذ في حلق الصائم، يتذوقه بجنانه لا بلسانه، ويستسيغه بفؤاده، ويفيض سعادة على جوارحه؛ فترى الجوارح كلها في مؤتمر إيماني مؤتلف، فلا العقل يعصى، ولا اللسان يلغو، ولا العين تخون، ولا الأذن تسترق، ولا اليد تجترئ، ولا القدم تخطو، ولا النفس تصبو إلى ما نهاها ربها عنه . ذاك المؤتمر الجوارحي الذي يخرج بتوصيات تُنفذ، تتمثل في سلوك مثالي نموذجي، يسلكه الصائم طوال يومه، يرتجي مغفرة عند أول رشفة ماء تبل اللسان، وتسير في العروق، فترى الوجدان كله عند فطره يدعو بدعاء علمه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا : " ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله " .