بقلم المستشار/ د. عبدالإله جدع خرج الوالد المسنّ إلى حديقة المنزل ليستنشق هواءً عليلاً ويصرف عنه ما مسّه من ضيق الوحدة أثر الجلوس في غرفته، وكان ابنه الكبير يجلس على مقعد في الحديقة كانا يجلسان عليه معاً حين كان الابن صغيراً يجلس بحضن أبيه، فجلس الأب بجوار ابنه ولم يتكلم، والابن يقرأ ويتابع شيئاً مكتوباً، فوقف طير يغرّد على غصن شجرة في الحديقة وكان يِلقّم صغاره كلما أتى بطعام لهم فسأل الوالد ابنه ما هذا قال: عصفور يطعم صغاره ويغرد سعيداً كما ترى، ثم بعد وقت وجيز كرّر الأب السؤال فكرّر الابن الجواب مع شيء من الامتعاض، فأعاد الوالد السؤال مجدّدا فما كان من الابن الا الضّيق وعتاب أبيه بالقول: كم مرة أجبتك يا أبتاه ألا تراه؟! إني مشغول بالقراءة!! قال الوالد بلى أراه جيداً،ثم استأذن الوالد ودخل إلى المنزل ثم عاد وفي يده دفتر مذكراته القديم، فجلس بجانب ابنه وفتح على صفحة معيّنة وطلب من الابن النظر فيها لدقيقة فقط، فنظر الابن بعد أن قطع قراءته بدهشة لكنّه أمام إلحاح والده نظر في الصفحة وأكمل القراءة ثم تأثر جداً، ودمعت عيناه، فحضن والده وطيّب خاطره ثم اعتذر له،،!! فيا تُرى ماذا وجد الابن في تلك الصفحة؟ لقد سجّل الوالد هناك ذكرى يومٍ من ذكرياته بالعام واليوم والوقت حين بلغ ابنه ثلاث سنوات وكان يجلس بجانبه على نفس المقعد يشاغله ويقطع عليه تركيزه في القراءة تارة ويقفز إلى حضنه تارة أخرى، وفجأة يأتي عصفور على جذع الشجرة نفسها ويطعم صغاره فسجّل الوالد الحدث بقوله: سأل صغيري ما هذا فأجبته وكان يضحك ثم يعود ليسألني فأجيبه حتى المرة الخامسة دون ملل، وكنت سعيداً لأنه بدأ يتكلم وتسعده إجابتي فيضحك ولا أضيق أبدا، إنّي أحبّه كثيراً، وكانت رسالة واضحة معبّرة موجعة لا تحتاج إلى عتاب بعدها أو لوم، وتلك أقصوصة أجنبية مَروية تنطق عبرة وموعظة ودرساً للناس في التعامل مع آبائهم خاصة وكبارهم على وجه العموم، فالمواقف والظروف ونمط الحياة المدنية الحديثة المتسارع بكل تقنياتها وملهياتها وأشكالها اليوم تسرق الناس والُأسَر من بعضهم البعض وخاصة الأبناء من والديهم وكبارهم،، فلم يعد ثمّة اهتمام أو رعاية وسؤال عن الكبار الذين يأخذ منهم الزمن قوتهم وتركيزهم فيضيقون من الجلوس وحدهم ويضيق من حولهم بأسئلتهم وتكرارها بمواضيع كانوا قد طرحوها مراراً، على الرغم من أن الكبار ما كانوا يضيقون من أسئلة الصغار وإلحاحهم لشراء لعبة أو الذهاب لمدينة ملاهي أو تكرار الكلام!! فما الذي حدث؟! إنها مادية العصر الحديث واختلاف النشء عن أهل أول الذين كان لحضور والديهم وجلوسهم بجانبهم تقدير واحترام ووقار، بل إن ذلك هو سلوكهم حتى مع الكبار في الحارة، من الجيران أو المعارف، صحيح أن جيل اليوم أتيحت له تقنيات الأجهزة الذكية والذكاء الاصطناعي وما يتركه من تأثيرات سلبية في التعامل والاتصال والعلاقات التي شابها الكثير من الجفاف والبرود وقلة الذوق، لكننا لا ننكر آثار التقنيات الحديثة الإيجابية المتعددة التي جعلت الكون قرية يتعارف أفرادها ويتقابلون من خلال العالم الافتراضي، ومع ذلك لا نبرر ما مسّ العلاقات من سوء وتقصير بسبب تلك التقنيات والوضع مستمر بكل أسف بل هو يسوء،*وبنظرة فاحصة، ووفق موقع منظمة الصحة العالمية اتضح أن الصحة النفسية والعافية الانفعالية أمران مهمان لدى كبار السن كما هو الحال في أية فترة أخرى من فترات الحياة، ناهيك عن أن الاضطرابات العصبية النفسية لدى كبار السن مسؤولة عن 6.6% من مجموع حالات العجز الكلي ( بل ويلاحظ أن سبب تلك المعاناة النفسية والعصبية تعود- بعد الأمراض العضوية التي يعانون منها بالطبع-إلي سوء المعاملة والإهمال والتجاهل أو الامتعاض منهم، من قبل من حولهم،،) وهذا مؤسف جداً،، فليس ثمة أسبابٍ تبرّر سوء الخُلق من الأبناء والمعارف إطلاقًا لا نفسيّة سيّئة ولا مزاجاً متعكّراً ،ولا انشغال بجوال أو عمل، فمن حَسُنتْ أخلاقه وطابتْ سَريرته احترم الناسَ وراعى مشاعرهم، فما بالك بوالديه وأهله والكبار عموماً، وبالدراسة التحليلية وجد أن سكان العالم يشيخون بسرعة؛ فالتقديرات تشير إلى أن نسبة كبار السن في العالم ستتضاعف من حوالي 12% إلى 22% ما بين عامي 2015 و2050. وهذا يعني بالأرقام المطلقة زيادة متوقعة من 900 ملايين إلى ملياري شخص فوق سن ال 60، وأن كبار السن يواجهون تحديات صحية – بدنية ونفسية – خاصة، ينبغي الاعتراف بها ومن أسبابها سوء التعامل الذي يؤذي حالات الكثيرين منهم ويقلّل من نشاطهم،، وقد وُجد ان أكثر من 20% من البالغين بأعمار 60 سنة فما فوق يعانون من اضطراب نفسي أو عصبي و 6.6% من جميع حالات العجز عند من تجاوزوا ال 60 تُعزى إلى اضطرابات عصبية ونفسية و هذه الاضطرابات في الفئة السكانية كبيرة العمر تؤدي إلى 17.4% من العجز وأكثر الاضطرابات شيوعاً هي الاكتئاب الذي يساعد على حدوث الخرف أو الزهايمر، إذن فكبار السن مع تطور الحياة المدنية وسبل العيش وتقدم الطب تزيد اعدادهم والأعمار بيد الله لكن لأساليب العيش تأثير كبير، فإذا لم يتم الانتباه لأساليب التعامل معهم بكثير من الذوق والاهتمام والرعاية والتقدير وحفظ الجميل فإننا سنواجه بمزيد من المعاناة والأمراض للكبار وسيدفع الثمن من حولهم ويعانون وأخشى ما أخشاه أن نصحو على تقليد المجتمع الغربي الذي تخلّص من كباره ونقل عبئهم إلى دور العجزة، ومن كان رحيماً منهم في مجتمعاتنا خصص خادماً وممرضة يراعيان الكبير، ولن أنسى شخصية معروفة كان لها تاريخ وجهد في اعماله ثم رأيته على كرسي متحرك في مطعم سوق مشهور ومعه خادمة تجلس بجانبه تطعمه وتحاكيه وخادم يقود كرسيه المتحرك، ولا أحد من أهله معه أبداً، والله المستعان، والغريب أن الإنسان يتناسى بأن العمر سيسرقه وسيكون في نفس وضع الكبير الذي امتعض منه أو أساء معاملته فصغير اليوم هو كبير الغد وكما تدين تدان، لذلك ينبغي أن نتخذ شعارا نرفعه في التعامل مع كبار السن وهو (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وقد أمر الله عز وجل بالإحسان إلى الوالدين وحسن برهم وردّ الجميل إليهم وأداء هذه الوصية ليست بالأمر السهل إذ أن تلك المرحلة من العمر لها ظروفها كما أسلفت وتحتاج إلى اختبار للصبر وتمحيص للأجر، قال عزّ وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ويلاحظ توجيه الخالق الحكيم بالأمر عند بلوغ الوالدين أو أحدهما الكبر، لعلمه جلّ في علاه بما يواكب تلك المرحلة من متغيرات وقال تعالى{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} وهنا بيّن وربط الحمد والشكر لنعم الله مع الوالدين،، وثمة نصائح في موقع الأكاديمية العالمية لعلم النفس Academy of psychology تكشف أساليب التعامل مع كبار السن لابد أن تدرّس في المناهج وقد نقلتها بتصرّف : 1- مبادرة المسن بالتحية وتقبيل الرأس واليد لاسيما إن كان أباً أو أماً . 2- رفع الروح المعنوية لديه بحسن استقباله والتبسّم في وجهه فهذا يشعره بحب المجتمع. 3- سؤال المسن عن ذكرياته وانجازاته والإصغاء إليه وعدم مقاطعت. 4- الحذر من الاستئثار بالحديث في حضرته أو تجاهله دون منحه فرصة للتعبير عن مشاعره وخبراته. 5- عدم التبرم والضجر من تعصب المسن لماضيه لأنه يمثل له القوة والنشاط والمكانة الاجتماعية. 6- ضرورة السؤال عنه لاسيما من القريب والصديق ففي هذه المرحلة يزداد الشعور بالوحدة والغربة فتتدهور حالته ويزيد إحساسه بالأمراض والآلام. 7- مساعدته على المشاركة الاجتماعية والتكيف مع وضعه الجديد. 8- المبادرة إلى معاونة المسن ونفعه. 9- تطييب نفس المسن ورفع معنوياته و بأنه بخير واشعاره بالامتنان. 10- حماية المسن من مخاوف الكهولة و فقدان المركز الاجتماعي على الحالة الصحية والمادية وانعدام الفائدة. 11- ضرورة العناية بتربية النشء من مرحلة مبكرة على احترام كبار السن وتقديرهم. ▪️من شعري: وقّر كبيرَ السنِّ اِحفظْ حقّه في العيش مكفولا بما يرضيه