* ✒التعليم عن بعد مالئ الدنيا وشاغل الناس... ولكنّه لم يشغلني على الرغم من حضوري كثيرًا من المؤتمرات والفعاليات عنه، وقراءتي عددًا من البحوث فيه، وكتابتي مقالات وأوراقًا علميّة... كلّ ذلك تمّ بالضغط على أيقونة العقل لتفكّر وتبحث وتكتب. *وحين بدأ الأمر فعليًا، وبدأ أولادي ممارسة التعلّم عن بعد، توقّفت، ووجدتُ أيقونة العاطفة تشتغل دون أمر منّي... كانت أكثر الصعوبات وضوحًا: فقدان مجتمع المدرسة، واللعب مع الأصدقاء، وتفريغ شحنات الطفولة. بعد المعلّم -بجسده وابتسامته وحركات يديه وتفاعله- عن المشهد التدريسيّ. اختلاف أنماط الطلّاب سيعزّز تعلّم النمط السمعي، والبصري إلى حدٍّ قليل، ولكنّ النمط الحركي والحسي سيصابان بخيبة الأمل. طول مدّة جلوس الطفل أمام الحواسيب سيشعره بفقدان شهيته للتعليم. فقدان التعزيز والتحفيز، بالصورة التي تحقّق استمرارية الرغبة والشغف. * * ومرّ فصلٌ دراسي، تكبّد فيه أبناؤنا ضرر الجلوس أمام الحواسيب، وذاقوا صنوف الانعزال عن العالم الخارجي، يحدوهم الشوق إلى فناء المدرسة، ولقاء الأصحاب، وابتسامة المعلّم وتعزيزه، والرحلات المدرسيّة، والأنشطة اللامنهجيّة، والخروج من أسوار حجراتهم إلى نور الشمس الصحيّ، وجو المدرسة الإيجابيّ. *لم يكثروا الشكوى، وتعاملوا مع الموقف بما يسعد النفس؛ لقدرتهم على تحمّل المسؤولية، والتفاعل مع التقنية، وتجاوز العقبات، ولكنّ شبح الملل يسكن تفاصيلهم، وصفرة الانعزال تعلو وجوههم، كنّا –نحن الأهل- الأقدر على ترجمة مشاعرهم، وكنّا الأكثر تمتمة بالدعوات لأن يعود الماضي الجميل، الذي يملأ نفوسنا الشوق إليه، بما يحمله من مصاعب، لكنّها لا تخلو من جمال العيش مع الآخرين بعيدًا عن العالم الافتراضي. *لن ينسى أولادنا هذه الحقبة، وستظلّ بصمة في ذاكرتهم، وحين أتى وقت الاختبارات، بدأت مشاعر التوتّر، ومعاناة المتميّزين، الذين هم على يقين أنّ الدرجة ستكون واحدة للجميع؛ فلم تعد الفروق الفرديّة واضحة المعالم، وفي ظلّ البعد ستشيع فوضى غياب الضمير، وعدم تقدير بعض الأسر لقيمة الأمانة، وأهميّة الصدق في قياس المهارات، كلّ ذلك جعل من التعلّم عن بعد والتقويم عن بعد تجربة مريرة في ذاكرة التعليم، ولا أحبّ وصم هذه التجربة بالفشل؛ فقد نجحت وتخطّت حدود الظنون التي لحقتها في البدايات، وكان نجاحها واضحًا في قدرة الطلّاب على التعلّم في ظلّ ظرف استثنائي، هو ظرف الجائحة، وقدرة المعلّمين على الإبداع في الموقف التدريسي، وقدرة التعليم والتدريب على التخطيط والتنفيذ، ووصلنا إلى الأهداف بأقلّ الخسائر، ولكنّ الجانب القيمي يئن ثاكلًا بعض أعضائه، والجانب النفسي يتهاوى فاقدًا وجوده. * * وخاتمة التعلّم عن بعد إجازة عن بعد؛ لقد اعتدنا البعد، وأصبحت مفرداته لصيقة لحياتنا، لم تعد الإجازة تعني أكثر من توقّف الحصص والدروس، وانتظار موجة تعليم (عن بعد) قادمة، وافتقد كثير من الناس عاداتهم الاجتماعية من اجتماع عائلي، وسفر، وحريّة في الخروج، وانتابتهم نوبة من الانعزال والوحدة، ولم يبقَ في قاموس التفاؤل والفرح أجمل من اجتماع الأسرة الواحدة، والتخطيط لمستقبل مشرق (عن بعد)!