كم من مبصر لا يرى طريق الحق، وكم من أعمى قادته بصيرته إلى الله تعالى وهو يتأمل آياته ومعجزاته. "والقلْبُ يُدْرِكُ ما لا يُدْرِكُ البَصَرُ " ولنؤكد تلك الحقيقة دعونا نتأمل قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ} ذكر الشيخ السعدي في تفسيره : ( { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } من حر إلى برد، ومن برد إلى حر، من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل، ويديل الأيام بين عباده، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } أي: لذوي البصائر، والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها، كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة الحسية. فالبصير ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكر وتدبر لما أريد بها ومنها، والمعرض الجاهل نظره إليها نظر غفلة، بمنزلة نظر البهائم.) أيها القراء: لو كان العمى وفقدان البصر مانعًا دون تحقيق الغايات، لوجدناه مانعًا لأناس وصلوا لأعلى المراتب رغم فقدانهم البصر. هذا هو الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - يرحمه الله- أشهر من نار على علم، وبلغ مبلغًا من العلم والحفظ والضبط وهو أعمى، لكن بصيرته قادته لما كان عليه، ومازال علمه يتردد في أصقاع المعمورة. أيها الكرام: كثيرة هي النماذج المشرقة رغم فقدان البصر. خالة والدي _رحمهما الله_امرأة قاربت المئة من عمرها، وتميزت بالدين ورجاحة العقل، ورغم فقدها للبصر، كانت ممن يجيد الوصف في رواية القصة، وكأن من يسمعها يعيش واقع ذلك الوصف الدقيق.. وعلى جانب آخر، أذكر لكم رهين المحبسين، الشاعر ( أبو العلاء المعري) الذي قال عنه التبريزي : ( ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة ولم يعرفها المعري). إليكم هذا الموقف: (ولقد اتفق قوم ممن يقرأون عليه، فوضوعوا حروفاً وألفوا كلمات، وأضافوا إليها من غريب اللغة ووحشيها كلمات أخرى، وسألوه عن الجميع على سبيل الامتحان فكان كلما وصلوا إلى كلمة مما ألفوه، ينزعج لها وينكرها ويستعيدها مراراً، ثم يقول: دعوا هذه. والألفاظ اللغوية يشرحها ويستشهد عليها حتى انتهت الكلمات، ثم أطرق ساعة مفكرًا، ورفع رأسه، وقال: كأني بكم وقد وضعتم هذه الكلمات لتمتحنوا بها معرفتي وثقتي في روايتي، والله لئن لم تكشفوا لي الحال، وتدعوا المحال. وإلا فهذا فراق بيني وبينكم، فقالوا: والله الأمر كما قلت، وما عدوت ما قصدناه، فقال: سبحان الله، والله ما أقول إلا ما قالته العرب..) أيها الفضلاء: لن نبتعد قليلًا، فواقعنا اليوم فيه من هذه النماذج المبدعة، التي هممهم تناطح السحاب، وترغمنا أن نقتدي بها في ذلك الطموح العالي، وتلك الروح الإيجابية، والابتسامة المشرقة لمن حولهم.. من فقد بصره يا كرام: يستحق أن يُطلق عليه( صاحب البصيرة) وهؤلاء لهم حق علينا، فلنبادر في تقديم ما يحتاجون، ولنكن لهم يدًا حانية تشعرهم بالأمان، وتستمد من صبرهم الصبر والعزيمة..