على حد علمي لا أحد يستثمر من أجل أن يفقد رأسماله، المخاطر لا مفر منها لكن المخاطر المحسوبة فقط، وأشدد هنا على عبارة المحسوبة، أي أن تكون محددة ومعروفة ويمكن تحمل خسائرها إن هي وقعت، فالمخاطر هي جزء من حياتنا كبشر على هذا الكوكب، الكل يعمل من أجل تحقيق دخل ثابت مهما قل منه أو كثر، وفي ذلك الطريق يعرض نفسه للخطر، وكلما ارتفعت المخاطر كان الدخل أكبر، الفقر والغنى ليسا مرتبطين برغبتنا بالمخاطر كما يظن البعض، بل هما مرتبطان "بقدرتنا على معرفة المخاطر وجعلها محسوبة"، وهنا يجب أن يكون التعليم الحديث في إدارة الأعمال. لكن هذا لا يعني أننا لا نواجه مخاطر غير معروفة في حياتنا، بل نحن نواجه كثيرا منها، لكننا نمضي قدما لسببين معا، الأول أن يكون احتمال حدوثها قليلا جدا بل نادرا، مثلما يدعي محبو السفر بالطائرة، فهناك مخاطر هائلة غير محسوبة ومع ذلك نسافر، لأننا نعتقد أن هذه المخاطر نادرة الحدوث، والآخر أن بعض المخاطر غير المحسوبة يمكننا مواجهتها بالتأمين. تترنح سوق الأوراق المالية السعودية بالمستثمرين منذ انهيار عام 2006، فما إن ترتفع حتى تتراجع، وما إن تعطي إشارات جيدة حتى تعود بإشارة سلبية، بمعنى آخر فهي "مقلقة". فالمخاطر غير المحسوبة هي السائدة، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنني أقابل كل شهر تقريبا شخصا يشتكي من سوق الأسهم، ومحاولات الاستثمار التي فقد فيها جزءا كبيرا من رأسماله مع تراجع الأسعار. ورغم أن من يتابع السوق يجد بعض الأسهم تتحرك بشكل قوي من أسعار متدنية إلى الضعف تقريبا، فلماذا هناك يفقد رأسماله بسهولة؟ السبب هو القلق من السوق كما أشرت. فالسوق تعطي إشارات جيدة يقرأها المجتمع بشكل صحيح، ثم إذا بدأ البعض بالمغامرة وشراء الأسهم تتبدل الأجواء سريعا ويصبح الجميع معلقا في الأسهم لعدة أسابيع، ومع القلق من مخاطر تراجع الأسعار أو التعلق لمدة طويلة يقرر الخروج بأقل الخسائر على وقع الآثار النفسية لتجربة انهيار السوق عام 2006 وما بعدها من سنوات عجاف. نعم هناك من يقول إن سوء تنوع المحفظة الاستثمارية هو السبب، لكن الحقيقة أن العوائد التي تقدمها الشركات السعودية هي السبب. العوائد التي تقدمها السوق من خلال الشركات لا تعوض المخاطر المحسوبة، فضلا عن المخاطر غير المحسوبة، فهناك شركات تقدم عوائد ضعيفة أو لا تدفع ابتداء أو أنها في خسائر مستمرة منذ أنشئت، نحن نستثمر في الأسهم لأننا نريد العوائد، ذلك أنني لو أردت المحافظة على رأس المال فإن الذهب يكفيني، لكنه لا يدر عوائد، والاستثمار رغم مخاطره لا يعني أن أفقد جزءا من رأسمالي كل يوم دون سبب واضح، ولا يعني أيضا أن تمر السنة بلا عوائد أو عوائد بالكاد تعوض النقص في رأس المال، هذا الاستثمار لا يريده أحد. ولكن هذا هو واقع السوق المالية اليوم، ولهذا فهي غير قادرة على جذب دماء جديدة. سوف أوضح نقطة مهمة جدا، سوق الأسهم السعودية - في نظري - لم تتجاوز كونها سوقا لرجال الأعمال، وليس للمستثمرين، سوقا للشركات التي تبحث عن تمويل خال من المخاطر، سوقا للمديرين التنفيذيين الذين يبحثون عن مكافآت وتعويضات حتى لو كان الأداء سيئا، سوقا لمن يبحث عن عضوية مجلس إدارة لا تتم محاسبته، وعن لجان غير مسؤولة عن شيء فعلا، ولكنها ليست للمستثمرين. سوقا يربح الجميع منها حتى شركة تداول وهيئة السوق المالية وشركة إيداع الأوراق المالية، سوقا تربح فيها حتى شركات الوساطة ويخسر فيها الفكر الاستثماري فقط. كنت أقول - وما زلت أرددها - إن مشكلة كثير من رجال الأعمال في المملكة أنهم ليسوا مستثمرين بالمعنى الكامل، هم عصاميون في صورة رجال أعمال يرتبطون دائما بشركاتهم التي قاموا بتأسيسها، رجال الأعمال يركزون على العوائد الأساسية التي تأتي من الشركات التي يرونها جزءا منهم ومن أعمال العائلة التجارية التي يديرونها، ولهذا فإنهم وفقا لهذا التصور مرتبطون بالشركات أكثر من أجهزتها التنفيذية، يسقطون معها إن هي سقطت ويحلقون معها إن هي حلقت، هم جزء من منظومة القرار فيها، وهذه مشكلة تعقد الفكر الاستثماري في المملكة وتتسبب في تشوهات كبيرة. يحتاج الاقتصاد السعودي إلى مستثمرين كبار، ولاؤهم في السوق المالية لأموالهم فقط، وليس لديهم أي ارتباطات من أي نوع بالشركات التي يستثمرون فيها سوى العوائد، والعوائد فقط، هؤلاء المستثمرون ليست لديهم نزعة للتورط في القرار التنفيذي، وليسوا جزءا من منظومته عادة، يكافئون الشركات الناجحة بالاستثمار فيها إذا كانت العوائد مجزية والشفافية عالية والإفصاح ممتازا والأداء رائعا، ويعاقبونهم ببيع استثماراتهم إذا لم تكن الشركة وأداؤها عند المستوى المأمول. وفي مقام استثماري مثل هذا فإن الشركات ستكون متحفزة لأي تغير في هيكل الاستثمار لديها، وتعمل جاهدة للمنافسة على مستوى العوائد والإفصاح، وتكون الشركات قلقة جدا مع دخول أي شركات جديدة في السوق قد تقدم عوائد أفضل. في سوق مثل هذه يصبح الاستثمار سيد الموقف، والعوائد أفضل والقلق في أدنى مستوياته. لذا أقول إنه لا خلاص للسوق المالية السعودية من مأزق القلق الذي تعيشه اليوم، إلا من خلال تغيير جذري في هيكل الفكر الاستثماري في السوق، والتخلي عن نموذج رجال الأعمال العصاميين إلى نموذج رجال الأعمال المستثمرين، ولا أعتقد أن شيئا من هذا سيحدث قريبا ما لم تأت دماء جديدة باستثمارات كبيرة جدا، ولا أظن أحدا قادرا على ذلك سوى الاستثمار الأجنبي، لكن السوق المالية لا تستطيع استيعاب التغير هذا، إذ إن التغيير في هيكل الملكية يتطلب ضخ سيولة كبيرة، وهذا سيتسبب في ارتفاع الأسعار أكثر من العوائد التي تقدمها الشركات اليوم، وهذا خطر غير مسحوب ولا يوجد مستثمر أجنبي مؤسسي يرغب فيه.