الرسالة الثانية إلى الشعب الأمريكي : لما جاء الإسلام كان القرآن يأمر أتباعه بالإيمان بموسى ، وعيسى ، وسائر الأنبياء ، واحترام الأديان السماوية ، وجَعَلَ لأهل الكتاب - من يهود ومسيحيين - أحكاما خاصة تخالف أحكام الوثنيين ، وسماهم «أهل الذمة» ، أو «المعاهدين» ، فكان لأهل الذمة حقوق نظامية أكثر من غيرهم من غير المسلمين ، حتى قال محمد - عليه الصلاة والسلام - : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» ، وأعطى عمر بن الخطاب أهل إيلياء أمانًا على أنفسهم ، وأموالهم ، وكنائسهم ، وصلبانهم ، وأنهم لا يُظْلَمون بسبب نصرانيتهم ، ولا يُضَارُّ أَحَدٌ منهم ، وهذه تسمى «الوثيقة العمرية» ، وكان علي بن أبي طالب - حين كان خليفة - قد خاصم يهوديا في درع فقدها ووجدها عند ذلك اليهودي ، فاحتكما إلى القاضي شريح ، فحكم بها لليهودي ، ولم يُحَابِ الخليفة ، فأسلم اليهودي ، وقال : «أشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، أميرُ المؤمنين يدنيني إلى قاضيه ، فيقضي لي عليه!!» ثم أسلم ، وأقر أن الدرع لعلي ، فوهبها له علي ، وجيء علي بن أبي طالب مَرَّةً برجل من المسلمين قَتَلَ رجلا من أهل الذمة ، فقامت عليه البينة ، فأمر عليّ بقتل المسلم ، فقال أخو الذمي : قد عفوت عنه ، قال علي : لعلهم هددوك ؟ قال : لا ، ولكنَّ قَتْلَه لا يرد عليَّ أخي ، وقد عوضوني ، فرضيت ، قال علي : «من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا» . لقد عاش المسيحيون واليهود في ظل الشريعة الإسلامية في أمن وأمان ، وقد كان المسيحيون في مصر أشد طائفتهم بلاء تحت قبضة الرومان ، وذاقوا منهم أقسى العذاب والنكال ، فكان ذلك سببا في اندفاع المسيحيين المصريين لاستقبال الفتح الإسلامي بدون مقاومة ؛ ليخلصهم من اضطهاد الرومان ؛ لِمَا علموا من رفق الإسلام بهم ، ورحابة صدور أتباعه ، وما يمتازون به من عدل وإنصاف . ولما تأزم أمر الأسبان ، وتكالب عليهم العدوان ؛ لم يجدوا أرحم بهم من المسلمين ، فطلبوا الفتح الإسلامي ؛ رغبة بما لديهم من عدل ، في مقابل الظلم الواقع عليهم - ولا يخفى على التاريخ استنجاد الكونت يوليان بالمسلمين - ولم نجد المسلمين بعد فتوحهم قد أجبروا الأسبان على الدخول في الإسلام ، لأن قرآنهم يقول لهم : ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ، ولما سقطت الأندلس من أيدي المسلمين ؛ وأقيمت محاكم التفتيش وما صاحبها من متابعة المسلمين واليهود ؛ كان المسيحيون آنذاك يجبرون المسلمين واليهود - بعد تعذيبهم - على التنصر أو الموت . وهذا كله مسطر في كتب التاريخ ، وباستطاعة أي فرد أن يصل إليه مدونا ، ولكن الشعب الأمريكي - على ما فيه من تحرر - يثق بإعلامه المُسَيَّسِ كثيرا ، وقد استغنى به عن البحث والتحري ، فاستغل الإعلامُ تلك الثقة ، فبث ثقافة كاذبة ، تسطيرا وتمثيلا ، فنشروا الكتب والبحوث التي تؤكد الحقد الدفين لدى العرب تجاه الغربيين ، وأنتجوا أفلاما تدغدغ عواطف الأمريكان ، تحكي مستقبل أمريكا ، وتخوفهم من العرب ، حتى أوحوا إلى الفرد الأمريكي أن نهاية أمريكا ستكون على يد رجل ذي عمامة على جمل ، يُصَنَّفُ على أنه من أتباع محمد ، يسعى إلى تدمير الحضارة الأمريكية والأوروبية ، حتى استقر ذلك في العقل الباطن لدى غالب الأمريكان وغيرهم من العالم الغربي ، وقلبوا تلك العلاقة الدينية - التي بنيت على أن الجميع أهل كتاب - كراهية وحقدا . ولسنا ننكر أن المسيحيين في عصور متأخرة عانوا من اضطهاد بعض الولاة المسلمين ، لكن لم يكن ذلك لأجل مبدأ ديني ، وإنما لضعف التأصيل العلمي عند أولئك ، وبخاصة الولاة المماليك - أي : الذين كانوا عبيدا فغلبوا على الملك - وهذا أحد الأمثلة التاريخية التي يقع فيها الخطأ باجتهاد غير صحيح ، وأن خطأ طائفة من أهل أحد الأديان لا يعود على الدين نفسه بالانتقاص ، ولا على سائر أتباعه ، ولو كان هذا التسلط على المسيحيين مسلكا دينيا لدى المسلمين لأثر تأثيرا بالغا في أمريكا ذاتها التي تضم في أراضيها أكثر من سبعة ملايين مسلم ، وسأذكر فيما بعد أننا لم نَعُدَّ تعديات الساسة الأمريكان في جميع أرجاء العالم - وبخاصة في الشرق الأوسط - عائدة إلى دين عيسى - عليه السلام - . بل لا نعد التطرف الديني لدى طائفة من المسيحيين محسوبا على دين عيسى - عليه السلام - فإن مما لا خلاف أن المؤسسين الأوائل للأمة الأمريكية هم «البيوريتان» أو «الطهرانيِّون» ، وهم - إذا تجاوزنا المرحلة المبكرة التي كان فيها أغلب المهاجرين من المنفيين ، وذوي السجون - كانوا يتزعمون إصلاحا دينيا يتسم بالتطرف والشدة المغاير لسماحة المسيحية الحقة ، ويعتقدون أن كل إنسان فهو متلوث بخطيئة آدم ، وعليه فكل الناس - وإن صلحت أعمالهم - في النار ، إلا من اختارهم الله ، وهم البيوريتانيون ، فهم وحدهم الممثلون للخير ، وسائر الناس يمثلون الشر ، فمن لم يستجب منهم إلى مذهب البيوريتان ؛ فلا مانع من إبادته من غير حوار ، وقد تمثلوا ذلك تماما في معاملتهم للهنود الحمر ، ونحن لا نرى أن مذهبهم مذهب لجميع النصارى ، بل نعتقد أن تلك الفرقة شاذة لا تمثل إلا نفسها ، وقد أمرنا الله تعالى بالعدل فقال في كتابه [ 4 / 58 ] : ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ، وسمانا الأمة الشاهدة ، والأمة الوسط ، فقال [ 2 / 143 ] ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) ، فلا نَحْمِلُ وِزْرَ أحد على غيره .