درُج بين الناس أن من يمتهن بيع الخضار من الشباب هو عاطل عن العمل بفعل فاعل رغم أنها من المهن التي تدر دخلاً لايستهان به ، إضافة ما تتسم به من شرف المهنة . ومع هذا نجد السؤال الذي يعكس نظرتنا للعمل والإنتاج ، يطل برأسه بين الحين والآخر من قبل البعض على ممتهن هذه المهنة وهو" ألم تجد وظيفة حتى الآن ؟!! " في تونس الخضراء كان أخونا محمد البوعزيزي رحمه الله ممن يمتهنون هذه المهنة بعد أن أوصدت أمامه جميع سبل الرزق الحكومية والخاصة فلم يجد بُداً، من أن يعقد صداقة حميمة مع (عربته) ليبع من خلالها الخضار ، وبقية الحكاية يعرفها الجميع. لكن هذه العربة ( الأسطورة التي سيخلدها التاريخ العربي الحديث ) كانت حصان طروادة الذي امتطاه أبنا لغة الضاد في عصرهم الجديد ، فأنتفض العرب على مستبديهم و فاسديهم ، بعد أن نفد صبرهم. فما البعد الرمزي لأثر عربة الفتح الجديد ؟ ولقائدها بكل تأكيد؟ لاشك أن هذه العربة كانت مدفوعة بقوة البوعزيزي الكامنة التي تراكمت عبر عقود طويلة ، لتبدأ رحلة التغيير والبناء فكان من نتاجها أن سقط ديكتاتور تونسي الذي ظن أنه نجح في مصادرة حرية بل وإنسانية المواطن التونسي ، فابتدع "بطاقة مصل" في عام 2002م والتي تمثل الإجازة أو الرخصة لأي شخص ، قبل أن يمتثل لأمر خالقه ! فيمارس الفروض الخمسة في بيت من بيوت الله ، وأشرف على هذا الابتداع وزير داخليته آنذاك الهادي مهنّي حيث قال ( انه وعملا بالسياسة القومية التي ينتهجها صانع التغيير يقصد رئيس الدولة زين العابدين بن علي وسعيا منه لترشيد ارتياد المساجد ودفعا للفوضى فإن مصالح وزارة الداخلية ستقوم بتسليم كل من يتقدم بطلبها بطاقة تمكنه من ارتياد أقرب مسجد من محل سكناه أو من مقر عمله إذا اقتضت الحاجة) !! الوقوف أمام رب العباد يحتاج موافقة السلطان ، هكذا يبتدع المستبدون !! كما سقط "مبارك" بعد أن حكم بلاد الكنانة 30 عاماً وبالطوارئ!، وحاصر غزة عشرة أعوام من أجل دول تخلت عنه بكل سهولة ! عندما بدأ يترنح ، و كأن بأمس الحاجة إليهم. ملك ملوك أفريقيا ، لم يسلم أيضا من دخن الهبة العربية و رفض الظلم والاستبداد ، فتزعزعت هيبة وقوة ديكتاتور ليبيا المجنون بحب العظمة وباستباحة دماء شعبه، وهو يعيش خريف حكمه بانتظار عربة البوعزيزي الليبي لتنقله إلى مزبلة التاريخ بصحبة قراقوشه "الأخضر" وتواصل العربة رحلتها الميمونة لتحط في ربوع اليمن السعيد الذي ظهر حاكمه أكثر من مرة ليعلن الكثير من التنازلات التي من خلالها تفضل عليه الشعب بإمهاله ستين يوماً لتسليم الحكم!، وغني عن القول أن مجرد التفكير في هذه التنازلات قبل يوم واحد من "إحراق" صاحب عربة الخضار نفسه، يعتبر جريمة و عمالة وخيانة للوطن والمواطن! وعندما أطلت العربة السحرية على بلاد الشام بدأت ثورة الكرامة والعزة التي انتظرها هذا الشعب الجبار طوال الخمسين عاماً الماضية ، والذي راح يعزي نفسه من خلال تفعيل الخيال الدرامي واجترار التاريخ درامياً في باب الحارة والخوالي، وحتى إن لم تصل هذه الثورة إلى أهدافها الأخيرة، فيكفي انه لولا عزيمة أهالي درعا الأشاوس، لما فكرت السلطات القمعية هناك بإلغاء قانون الطوارئ بعد قرابة الخمسين عاماً من تطبيقه الظالم على هذا الشعب الأبي ، ليحق لأهالي درعا بالذات وهم مازالوا في مقتبل ثورتهم أن يخلد اسم مدينتهم الصغيرة بمداد من ذهب في سجل الثورات العظيمة. والسؤال الذي يجدر طرحه الآن ، هل مات صاحب العربة بالفعل ؟ أم أنه فارقنا ليعيش بطلا بيننا ، وليحيي أمة عريقة دُفنت أو دفنت نفسها "لافرق" تحت كراسي الاستبداد والطغيان والفساد. لن أقول أحسن الله عزاءكم ، ولكني أقول أطال الله عمرك بطلا وعمر عربتك التي مثلت لبني قومك حياة جديدة ،بعد أن علمتهم كيف يرفضون الظلم والضيم . وقفة: الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء،أكبر هولاً من الحريق،أعظم تخريباً من السيل،أذل للنفوس من السؤال " عبدالرحمن الكواكبي" سلطان الفراج [email protected]