لقد كان العرب والمسلمون جميعاً ينادون منذ أكثر من ستين عاماً على قضيتهم الأولى , قضية فلسطين والمسجد الأقصى المبارك ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنا نتسلى منذ كنا صغاراً بعبارة ( ادفع ريالاً تنقذ عربياً أو تنقذ فلسطينياً ) ،ونجمع الهللات والقروش حتى تكتمل ريالاً ونضعه بكل فرح وسرور في صندوق التبرعات المقفل بجوار غرفة مدير المدرسة , ثم ننظر إلى من حولنا بانتشاء ونصر وكأننا قد صار لنا أجنحة لنطير إلى المسجد الأقصى ونصلى فيه ، وكانت تلك أحلام طفل لم يتجاوز سنة الست سنوات , فيذهب إلى المنزل ويخلد إلى النوم مبكرا , وهو يتخيل انه طرد الصهاينة من أرض فلسطين , وهم يولّون الأدبار لا يلوون على شيء , خوفا من بطشنا وهيبتنا , وعظمة الأمة الإسلامية جمعاء , ولما كبرنا كبرت الأحلام معنا وأصبحنا كل يوم ننتظر هذا النصر المبين , سيما وقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم به في آخر الزمان وقبل قيام الساعة بأن يكون لقاء بين المسلمين واليهود على ضفتي نهر الأردن فئة غربا عنه , وفئة شرقا , فينتصر المسلمون على اليهود ويناصر المسلمين فيها كل مخلوق حتى النباتات والجمادات تخبر عن من اختبأ خلفها من اليهود , إلا شجر الغر قد وهو اليوم يطلق على شجرة ( الحنظل ) أو قريب منها . أقول كنا ولا زلنا نؤمل في هذا النصر , لكننا نرى أنه لم يحن بعد وقد يعيقه الزمن أو ضعف العرب و المسلمين وهوانهم على عدوهم , ثم ما يلبثون أن يعودوا إلى قوتهم من جديد ، فكان الزمن دواليك يوم لك ويوم عليك حتى يحين الموعد ، لكننا جميعاً متفائلون وبقوة لاستقبال هذا النصر . لكن ما يجري اليوم من تشرذم في الأمة العربية والإسلامية، وما يجرى بين أبناء فلسطين أنفسهم من تناحر واتهامات متبادلة مما لا يمكن أن يصدقه عقل ولا منطق ولم نره بهذه الصورة في يوم من الأيام جعل الجميع يعيش قمة الإحباط وفقدان الأمل في أمته ، كيف لا ونحن الآن أكملنا شهرا منذ أول صاروخ صهيوني تم إطلاقه على غزة ولم نسمع كلمة واحدة تنطق بالحق وتقول للصهاينة : قفوا عند حدكم وارحلوا عن بلدنا ومقدساتنا بل ولم يجرؤ أي أحد من العرب والمسلمين أن يقول إن الصهاينة على خطأ ، بل وصل الأمر إلى أن يعقد في ثلاثة أيام أربعة مؤتمرات , وفي مواقع متعددة لمناقشة هذا الاعتداء و لم تستطع أن تقول للغاصب قف عند حدك , سوى كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدا لعزيز التي خرجت من القلب إلى القلب من خلال قمة الكويت , ووجدت تجاوبا من رئيس وزراء العدو الصهيوني والذي خاطب خادم الحرمين الشريفين عبر صحيفة ( بديعوت أحر نوت ) قائلا : إن مفاوضات السلام قائمة ولن تنزل من الطاولة , في الوقت الذي قابل الزعماء العرب هذا النداء على استحياء , لكنها لم تجد من أبناء فلسطين أي تجاوب يذكر – مع الأسف - بل تجاوز الأمر ذلك إلى أن نسمع كيل الاتهامات المتبادلة بينهم و كل يرى انه على حق بل وبعضهم أعاد القضية الفلسطينية إلى المربع الأول , حتى فاجأنا الصهاينة بعد أن أحرقوا غزة وأهلها ولم يبق فيها للحياة سبيلا بإعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد بعد أكثر من ألف ومائتي شهيد وشهيدة وأكثر من خمسة آلاف جريح وجريحة معظمهم من النساء والشيوخ والأطفال , وكأنه امتثالا لقرار الأممالمتحدة الهش , والذي لا يسمن ولا يغني من جوع , بل والأدهى من ذلك أنهم يقارنون بهذا المنطق طائراتهم ودباباتهم بمفرقعات يسلينا بها أبطال غزة , ولا تفعل لنا أي شيء سوى أن يستثمرها أعداء الأمتين العربية والإسلامية وتستثيرهم ضدنا , فتنعكس علينا في النهاية لكن مما يندى له الجبين وتبكي منه العين حرقة هو عقوق أبناء فلسطين نفسها ، حيث اتسع الشرخ بينهم وبدأ البعض منهم يكيل الاتهامات للآخر , إذ كنا في السابق نعلم أن الخلاف بين فتح وحماس لكن الهوة قد تتسع لأن الخلاف قد يصل إلى حماس نفسها ، وقد يسأل سائل ويقول : لماذا قتل هذا ولم يقتل ذاك وهو مرمى حجر عن العدو ،وهذا لعمري لن يزيد القضية إلا أذلالا ومهانة . وكنا قد سمعنا قبل ذلك من كان يبيع الإسمنت للصهاينة لبناء الجدار العازل , في الوقت الذي يرفع عقيرته تحت قبة الأممالمتحدة وينادي بصوت عال : لا... ثم لا ... للجدار العازل , وقبل ذلك من يتواصل مع الكيان الصهيوني من قلب الحرم المكي الشريف لينقل مادار في المصالحة التي جرت بجوار الكعبة المشرفة بجهد من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ورعاه , وقبل ذلك الاغتيالات المتكررة لأبناء فلسطين على يد الصهاينة بعد أن يدلهم عليهم مجموعة من المرتزقة الخونة , إذ فقدنا أحمد ياسين و قبله عياش وبعد ذلك الرنتيسي وصيام , بل إن ما يجرى خارج نطاق أبناء فلسطين وداخل نطاقهم ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (تتداعى الأمم عليكم كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، قالوا أمن قلة نحن يا رسول الله ، قال بلى أنتم كثير ولكنكم كغثاء السيل ) والغثاء هو الزبد فوق ماء المطر ما يلبث مع أول نسمة هواء أن يذوب . وإن مما أخجلني كثيراً هو ما يجرى من بعض أبناء فلسطين ممن يعيشون خارجها منذ زمن حيث أننا نتوقع أمام الجثث المتناثرة واللحوم المقطعة والشيوخ والثكالى والمنازل المحترقة والمهدمة أن نسمع كلمات تشد من أزرهم وتدعوا لوحدة الصف الفلسطيني والعربي والإسلامي بدلاً من تفريقها , فوجدنا معظمهم يعطي لنا من خلال إطلالته علينا عبر القنوات الناطقة بالعربية والتي تدعوا للملاسنة والغوغاء وجها غير الذي يطل به على القنوات الأجنبية وللناطقة بغير العربية . ولكي لا أطيل عليكم فلقد تابعت أحد هؤلاء ممن هو محسوب على فلسطين ويرى نفسه من المناضلين الشرفاء بل ومن المؤسف أنه تربى وترعرع في أحضان وطننا الغالي من خلال جريدة (المدينة ) التي تخرج من مدرستها أسماء لامعة وقيادات في مراكز هامة , ألا وهو عبدا لباري عطوان الذي منذ عرفنا البث الفضائي وهو يطل علينا من خلال قناة الجزيرة فيرفع صوته وتحمر أوداجه وينقطع نفسه حتى نشفق عليه في حديث نضالي يرمي من خلاله إلى تحرير فلسطين ويخلط معه اتهامات هنا وهناك لا يسلم منها وطني العزيز الذي ظل ويظل شامخاً لا ينظر لمثل تلك الغوغاء , بالرغم من أنه أخرج هذا وأمثاله ليرى النور من خلال هذا الوطن الأغر وينعم بعزته ،لكن الجديد في كل هذا هو أن لهذا الرجل وجهاً آخر يطل به على الغرب , ومن لا يتحدثون العربية يختلف جذرياً عما نراه ونسمعه دائماً ، ومثله كثير ممن يعيش بين ظهرانيهم , ولقد والله سمعته بأذني ورأيته بعيني عبر إحدى القنوات الأجنبية المشهورة فذهلت لأن من أراه وأسمعه ليس هو عبد ا لبارى عطوان الذي نعرفه ونراه ونسمعه دائماً من خلال الوجه العابس والحزين دائماً حيث لا نراه مبتسماً ولو للحظات،كما لم أسمع منه عبارة العدو الصهيوني أو شهداء غزة التي يكررها دائما عبر قنوات النضال المزيف ،بل رأيت وجهاً آخر لم أصدق أنه هو، حيث قد جلس على طاولة يتناول بيده اليمنى كوبا مملوءاً بالكافي وفي اليد الأخرى سيجار كوبي فاخر وتعلو محياه ابتسامة عريضة وكأنه حاز الدنيا بين يديه ، بل والأدهى من ذلك أنه كرر كثيراً دولة إسرائيل ولم يقل العدو الصهيوني بل ودعا إلى الهدوء والعقلانية والتعايش السلمي ولم يدع إلى قتل الصهاينة عن بكرة أبيهم كما كنا نسمعه دائماً . إنني لم أصدق ما أراه حتى أعدته مراراً فسألت نفسي .كيف سنخرج الصهاينة من أرض فلسطين ونحرر المسجد الأقصى وهذا حال أبناء فلسطين نفسها ومن خلفها حال الأمتين العربية والإسلامية , فعذرا يا أهل غزة , فهذه حال أبناؤك وأمتك . قال الله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)صدق الله العظيم )). غفر الله لشهداء غزة من أطفال ونساء وشيوخ وشفى كل جريح ومريض أنه سميع مجيب . أسعد الله أوقاتكم . عبد الرحمن بن محمد الفرّاج [email protected]