قرأت الكثير مما وقعت عليه عيني في الصحافة، وسمعت العديد من التعليقات على حدث إلقاء الحذاء على الرئيس الأمريكي ببغداد! وازدحم جوالي بقصائد عربية, وأخرى شعبية, تتناول الموقف من زاوية أخرى؛ منها بيت يقول: قومٌ إذا ضرب النعالُ أديْمَهُم صَرَخَ النِّعَال.. بِأَيّ ذَنْبٍ أُضْرَبُ؟! وجدت الكثيرين يكتبون ويتحدثن معجبين ببطولة خارقة وشجاعة فذة.. والكثيرين يفعلون ذلك مستهجنين استخدام الحذاء بدلاً من اللسان أو الكلمة. وآخرين اعتبروها رمزاً لحضور الأمة ووجودها وفاعليتها! -ويقابلهم من يعدّها دليلاً على الفشل والإخفاق العربي، وما آلت إليه الأمور! -قد يكتب أحدهم مقالاً طويلاً؛ يستنكر فيه إعطاء الموضوع فوق حقه، وربما كان أصاب، ولكنه هو أيضاً أعطى الموضوع بمقاله فوق حقه، وتعليقي عليه يصب في ذات الاتجاه!، فأنا شاركته التضخيم بتعليقي على تعليقه.. جماعة كبيرة دخلت في مقارنات.. مقارنات طريفة، وأخرى معقولة، وثالثة محزنة. موقعة \"ذات الكنادر\" تعبير لطيف من أحد الكتاب المقارنة بذات الصواري مثلاً، أو موقعة أم الكنادر، عطفاً على أم المعارك، وتطلق الأم على الكبرى من الأشياء، كما تطلق على صاحبة الشيء كعلامة، فيقال: أم الثوب الأبيض مثلاً، أي: صاحبته! ثمت من قارن الموقف بقصة حنين الشهير.. رجع بخفي حنين، ووظفها توظيفاً جميلاً ؛ للإشارة لفشل الإدارة الأمريكية في حملتها المزعومة على الإرهاب، وفي ادعائها النجاح في الملف العراقي.. أو من قارنها بغصة الرئيس الأمريكي بقطعة كيك أول رئاسته، ليجعل تلك الحقبة بين قوسين مرمّزين. أو من قارنها بحذاء الرئيس الروسي خرتشوف, الذي طرق فيه على طاولة الأممالمتحدة. أو من قارنها برمي تمثال الرئيس العراقي السابق بالحذاء قبل بضعة سنوات. أم من قارنها بأكاليل الورد والرياحين التي كان الأمريكان ينتظرون أن يستقبلهم بها الشعب العراقي.. ذلك جعلني ألتفت إلى حجم المقارنات الكبيرة الذي نستخدمه في حياتنا وتفكيرنا وكتاباتنا وتحليلاتنا, وكيف يمكن ترشيده وضبطه, فلا يكون مظللاً ولا موهماً ولا خادعاً، ولا يكون مجرد لعبة لفظية نحصل بها على ثناء أو إشادة، كما جرت عادة العرب أن يمتدحوا بسرعة البديهة, أو الألعاب الكلامية. أجمل تعليق قرأته لأحد الكتاب في جريدة \"عكاظ\" السعودية, يقول ضمن هذه المقارنات .. إن من الناس من يريد أن يحشرنا بين حذاء الصحفي، أو حذاء الرئيس الأمريكي الذي يدوس على كرامتنا! هذا صحيح. ستجد من الناس من يصطفّ وراء الحذاء ويتحمس له؛ لدرجة أنه يشكك في إخلاص أو وطنية من لا يُبجّل هذا الموقف، أياً كانت تفسيراته ومقاصده.. وكأن الموقف فرزٌ للوطنيين من الخونة المتآمرين. وستجد من يغضب لما حدث، لأنه مساس بالكرامة الأمريكية، إن صح التعبير، ولا يتفق مع سياسة أولئك الذين حضنوا الاحتلال وصفقوا له, وقرروا السير في ركابه والاحتماء بسلاحه.. يبقى الحدث صغيراً، ولكنه مثير، وعابر ولكنه مُعبّر، وتوقيته الزمني في نهاية الحقبة الرئاسية المظلمة، وفي الزيارة الأخيرة للعراق، يحمل دلالات عدة، حتى للشعب الأمريكي الذي لا يبدو مستاءً من الحدث.. وأهم ما يستحقه الحدث هو تناوله من زاوية رصد أنماط التفكير لدينا، وتصحيح عاداتنا الفكرية واللفظية التي تحكم نظرتنا للسياسة، وموقفنا من الآخرين، وتعبيرنا عن الرأي الذي نختاره وننتحله، فهو استفزنا لنتصرف بعفويتنا، وهنا يأتي دور الراصد ليراقب خطأنا وصوابنا! أحد الظرفاء عبر بعفويته.. الحمد لله، لا أتذكر أن أحداً أحرجني بهذه الطريقة، أو رماني بحذاء.. والسعيد من وعظ بغيره.. ويا لتوفيق من يُرمى بالطّيب من القول ؛ كما في الحديث المرفوع :« أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ مَلأَ اللَّهُ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ خَيْراً وَهُوَ يَسْمَعُ » رواه ابن ماجة والطبراني وأبو نعيم والبيهقي بسند حسن. والله أعلم